الإسماعيلية والطفل القاتل.. ومواجع لا تنتهي

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

محافظة الإسماعيلية التي واجهت الاحتلال الإنجليزي، وواجهت العدوان الإسرائيلي، تلك المدينة المناضلة صاحبة الملامح الباريسية تناديكم، لأنها الآن في أمس الحاجة إلى تضافر الجهود كي تعود كما كانت دائمًا، مدينة للجمال والهدوء والأمان، ونضع تحت كلمة الأمان عشرة خطوط حمراء، لأنها لم تكن يوماً مدينة خائفة.

هذه المدينة التي حملت فوق كتفيها جراح الحروب وبطولات المقاومة لم تعرف يوماً إلا الصمود، ولم يكن يخطر ببال أحد أن تتحول إلى بؤرة متزايدة للجريمة البشعة والدم البارد والمخدرات المتفشية في متنها وهوامشها، ولكن الحقيقة المؤلمة اليوم أن الإسماعيلية التي كانت يوماً رمزاً للبطولة صارت في بعض مناطقها مرادفاً للفوضى والانحراف وغياب الضمير.

جريمة هزّت وجدان الناس

قبل أيام فقط، جريمة هزّت وجدان الناس في أركان المدينة كلها طفل لا يتجاوز الثالثة عشرة من عمره، ربما طمس المخدر عقله، أو ربما غابت عنه التربية والأخلاق، قام بقتل زميله وتقطيعه بصاروخ كهربائي، مشهد لم تصدقه العيون ولا استوعبته العقول، كيف يمكن ليد طفل أن تتحول إلى سكين قاتل؟ وكيف يمكن أن يسكن مثل هذا العنف في صدر من لم يبلغ بعد مرحلة المراهقة؟ إنها جريمة تفتح كل الأبواب أمام السؤال الكبير ماذا يحدث في الإسماعيلية؟

هذه الجريمة لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة ما لم يتم اتخاذ موقف حاسم، فقد سبقتها مشاهد أكثر فظاعة ما زالت عالقة في ذاكرة المدينة، قبل سنوات مدمن تجرد من إنسانيته في وضح النهار قتل رجلاً في الشارع وفصل رأسه عن جسده أمام المارة، كأن المدينة أصبحت رهينة الجنون والمخدرات، وفي واقعة أخرى عجوز في منزلها البسيط، غدر بها ابن أختها بدافع السرقة، فسقطت قتيلة وسط صدمة أهلها وجيرانها الذين لم يصدقوا أن الدم يمكن أن يتحول إلى ماء بهذا الشكل البارد والوحشي في ذات اللحظة.

المخدرات التي صارت كالسرطان

هذه الجرائم وإن بدت متفرقة في ظاهرها، إلا أنها تشترك في جذر واحد واضح وهو المخدرات التي صارت كالسرطان يسري في أوصال المجتمع، لا شارع إلا وبه مدمن، ولا حي شعبي إلا وتجد فيه من يروج السموم جهاراً، ولا ليل يمر دون صوت دراجة نارية تنقل الحشيش أو الشبو أو البودر إلى الزبائن، الأسوأ أن هذه الشبكات ليست عشوائية كما يظن البعض، بل تقف خلفها عقول منظمة، تستغل الفقر والبطالة والانهيار الأخلاقي لتجعل من شباب الإسماعيلية وقوداً للتدمير.

وليس سراً أن بعض الخارجين عن القانون في أطراف المدينة، خاصًة في مناطق مثل مدينة المستقبل - تلك الثروة العمرانية المليارية - وضواحي القرى المحيطة مثل كيلو 7 وهي أقرب وباء للمدينة وجمعية العاشر وأبو عطوة، هذه الأطراف وجدت في اتساعها قدرة على مراوغة الرقابة الأمنية في فترات معينة، لذلك وجدت لديها فرصة ذهبية للتمدد. هناك أسماء معروفة بين الناس ويعرفهم الأمن جيدًا، مسجلون خطر يتعاملون ببجاحة وكأنهم مسنودون مقابل خدمات أو تسهيلات، هذا المشهد يقتل العدالة من جذورها، تلك الثغرات الصغيرة هي التي سمحت بتوحش الجريمة، لأن المجرم حين يشعر أنه صار صاحب سلطة يصبح أكثر جرأة على الدم وأكثر استخفافاً بالقانون.

ورغم ذلك، لا يمكن إنكار أن مديرية أمن الإسماعيلية حاولت منذ فترة قصيرة أن تستعيد السيطرة، فقد شهدت المدينة قبل شهر تقريباً حملة أمنية واسعة ضد الخارجين عن القانون، خصوصاً في مدينة المستقبل التي كانت تعاني من انفلات خطير، نزلت القوات إلى الشوارع انتشرت الدوريات، أُلقي القبض على العشرات من تجار السموم والمسجلين خطر، وشعر الناس حينها بنسمة أمل، وكأن المدينة تنفض عن نفسها ركام الخوف وتستعيد شيئاً من كرامتها، يومها فرح الأهالي، وتحدثوا في المقاهي والأسواق عن عودة الدولة وعن الحزم وعن الأمن الذي طالما افتقدوه.

ظاهرة تحتاج رؤية شاملة

لكن الأمل لا يكفي وحده، لأن الجريمة في الإسماعيلية ليست موسمية، وليست ظاهرة سطحية يمكن إنهاؤها بحملة عابرة، إنها ظاهرة متجذرة تحتاج إلى رؤية أمنية شاملة وإرادة سياسية صارمة، لأن ترك الأمور تتفاقم سيحوّل المدينة شيئاً فشيئاً إلى بؤرة خطر حقيقية على مستوى الجمهورية.

الإسماعيلية اليوم تحتاج إلى أكثر من دوريات ليلية، تحتاج إلى تطهير داخلي قبل كل شيء، يجب مراجعة كل الملفات الخاصة بالمسجلين خطر، إعادة فتح دفاترهم، تتبع تحركاتهم ومصادر دخلهم، هناك من خرج من السجون وعاد إلى نشاطه تحت سمع وبصر الجميع، وهناك من يختبئ خلف واجهات تجارية وهمية لتجارة المخدرات والسرقة خاصة في المزارع المحيطة بالمدينة مزارع المانجو والزيتون صارت تنفق على الحراسة المشكوك فيها اصلا، اكثر من انفاقها على المبيدات والاسمدة، هذا الواقع لا يمكن السكوت عليه.

لذلك نقول يجب أن تمتد يد المراجعة إلى داخل أقسام الشرطة نفسها، بتطوير الخبرات والتدريب وتوفير الامكانيات ومراجعة الكادر البشري، فبعض الأمناء مازالت خبراتهم كلاسيكية وبيروقراطية ينتظرون الجريمة كي يتحركوا ولا يعرفون معنى منع الجريمة من المنبع، هؤلاء هم أخطر ما  في تلك الظاهرة لأنهم يضربون الثقة في العدالة، ويهدمون صورة المؤسسة الأمنية من الداخل، لا يكفي نقلهم أو تحذيرهم، بل يجب أن تكون هناك محاسبة حقيقية علنية لا مجاملة فيها، فمن يحمي المجرم ولو بالصمت هو شريك في الجريمة.

عودة الهيبة إلى الشارع

لقد آن الأوان أن تعود الهيبة إلى الشارع، الإسماعيلية تحتاج إلى دوريات راكبة دائمة، إلى وجود أمني محسوس في كل الأحياء لا يقتصر على المناسبات، إلى كاميرات مراقبة تغطي الشوارع الحيوية، إلى خط ساخن فعال يستقبل بلاغات الناس دون خوف، كما يجب أن يكون هناك تنسيق أكبر بين الأمن العام ومباحث المخدرات والمجتمع المحلي، لأن المعركة ضد الجريمة لا يمكن أن يربحها طرف واحد.

المدينة التي كانت يوماً رمزاً للسلام والجمال والنخيل والبحيرات، صارت الآن تواجه سرقات عجيبة آخرها هو سرقة محصول الزيتون من على الشجر! وقد رصدت ذلك جروبات مهتمة بهذا المحصول مؤكدة أن هذه الظاهرة لاتوجد إلا في الاسماعيلية، أي انحدار أخلاقي وصلنا إليه؟ المزارع الذي يسهر الليالي على أرضه يستيقظ ليجد ثماره مسروقة، كأن اللصوص لم يتركوا شيئاً، هذه ليست مجرد سرقة محصول بل سرقة جهد وعرق وكرامة، وسرقة إحساس بالأمان، حين تمتد يد اللص إلى الشجر، فاعلم أن القيم انهارت وأن الردع لم يعد كافياً.

وهنا، نناشد وزارة الداخلية أن تدعم مديرية الأمن في الإسماعيلية بزيادة عدد القوات والدوريات، وتزويدها بمعدات رصد حديثة، وأن تمنحها صلاحيات أوسع في التعامل مع المجرمين شديدي الخطورة، كما أنه من المهم تنفيذ حملات مستمرة لا مؤقتة، تستهدف أوكار المخدرات في قرى مثل أبو عطوة، القصاصين، فايد، مدينة المستقبل وجمعية العاشر وغيرهم، هذه المناطق تحتاج إلى خطة تطهير شاملة، لا مجرد حملات تنتهي بالصور والتصريحات.

وفي المقابل، على المجتمع أن يتحمل مسؤوليته أيضاً، الجريمة لا تنبت من فراغ بل من بيت فقد الضبط، وأسرة تخلت عن دورها، ومدرسة لم تعد تربي، ومسجد وكنيسة لم تعد تؤدي الرسالة كما يجب، علينا أن نعيد بناء الوعي لأن المجرم الذي نحبسه اليوم هو طفل أهملناه بالأمس.

الإسماعيلية تحتاج إلى حملة تطهير فكرية واجتماعية موازية للحملات الأمنية، تحتاج إلى توعية ضد المخدرات، إلى برامج شبابية تملأ الفراغ، إلى دعم نفسي وتعليمي لأبناء المناطق الفقيرة الذين يسهل استقطابهم، الأمن وحده لا يصنع مدينة آمنة، لكنه حجر الأساس الذي يجب أن يقوم عليه كل شيء.

الأمن مسؤولية جماعية

لنكن واضحين.. من يتاجر بالمخدرات خائن، ومن يحميه فاسد، ومن يسكت عنه شريك، ومن هنا تبدأ المعركة الحقيقية تطهير الأرض من هؤلاء، واستعادة ثقة الناس في الدولة، الإسماعيلية التي قاومت الاحتلال لن يعجزها أن تقاوم المجرمين، إذا توفر القرار الصلب، وإذا أدرك الجميع أن الأمن ليس مجرد واجب رسمي بل مسؤولية جماعية.

وإلى وزارة الداخلية، نقول الإسماعيلية تناديكم، ساعدوا مديرية الأمن التي بدأت بالفعل في السير على الطريق الصحيح، لكن ما زالت تحتاج إلى السند، أمدّوها بالرجال والمعدات، اجعلوها نموذجاً للتطهير الحقيقي، لأن نجاحها في استعادة السيطرة سيكون رسالة لكل المحافظات أن الدولة لا تترك مدينة تنهار تحت وطأة الجريمة.

نقف جميعاً في صف الدولة، ونمنح رجال الأمن الدعم والثقة، لأننا بذلك نحمي أنفسنا وليكن شعار المرحلة لا تهاون مع الجريمة، لا تساهل مع الفساد، ولا مكان للخوف بعد اليوم.

الإسماعيلية كانت وستظل مدينة الأبطال، وتحتاج الآن إلى بطولة جديدة، لا في ميادين القتال، بل في ميادين الأخلاق والانضباط والحق، وحين تستعيد الأمن وتستأصل الفساد، ستعود كما كانت دوماً.. مدينة في قلب مصر، تنبض بالعزة وترفض الانكسار.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق