في لحظة فارقة من تاريخ مصر الحديث، كان المفكر ميلاد حنا (24 يونيو 1924 - 26 نوفمبر 2012) يقف في الصفوف الأمامية ليس فقط كمهندس مسؤول عن تحصينات جبهة القتال، بل كمواطن يحمل بين ضلوعه أسئلة حول معنى الوطن والإنسان والكرامة.

لم يكن د.ميلاد حنا من أولئك المفكرين الذين يراقبون التاريخ من مقاعد الوثائق والمكتبات. كان على خط النار، شارك في بناء التحصينات والدشم على الجبهة، وتناقضات الخطاب السياسي في سنوات ما قبل الهزيمة.
وفي شهاداته اللاحقة، كان يؤكد أن ما رآه في تلك الأيام جعله يدرك أن الأزمة حضارية وأزمة إدارة، وأزمة حرية، وأزمة وعي جماعي.
لم يتوقف عند السرد الكلاسيكي للهزيمة، بل ذهب أعمق من ذلك. رأى أن الهزيمة تعكس خللًا في العلاقة بين الدولة والمواطن، وبين السلطة والمعرفة، وبين الشعارات والواقع.
من هنا بدأت تتبلور عنده القناعة التي ستظل محور كتبه ومحاضراته لاحقًا:"لا نهضة بلا إنسان حر، ولا وطن بلا مواطن قادر على التفكير والنقد والمشاركة."

كانت تجربة الجبهة بالنسبة لميلاد حنا تجربة مزدوجة؛ كشفت له قسوة الحرب لكنها أظهرت أيضًا المعدن الحقيقي للمقاتلين والعمال والمهندسين، أولئك الذين حملوا مصر على أكتافهم رغم ضعف الإمكانات.
ومن هذه الخبرة تكوّنت لديه فلسفة واضحة:"الوطن ليس حدودًا جغرافية فقط، بل شبكة من البشر والقيم والعلاقات التي تتعرض للاختبار لحظة الحرب أكثر من أي وقت آخر".
وفي تحليلاته اللاحقة، كتب أن ما عاشه على الجبهة علمه أن أخطر ما يمكن أن يواجه أي أمة هو غياب الشفافية وغياب النقد. فالمجتمعات التي تُسكت عقول أبنائها تُهزم قبل أن تبدأ المعركة.
بعد سنوات من التأمل في آثار النكسة، صاغ ميلاد حنا واحدًا من أهم مشاريعه الفكرية: مفهوم "الأعمدة السبعة للشخصية المصرية".
ورغم أنه صدر بعد عقود من حرب 67، إلا أن جذور هذا المشروع تعود إلى لحظات الصدمة الأولى التي عاشها بعد الهزيمة.
فالخلاصة التي توصّل إليها هي أن الشعب الذي استطاع أن يتجاوز الهزيمة، ويعيد بناء جيشه واقتصاده وثقته بنفسه، لابد أن يمتلك مكونات خاصة تمنحه القدرة على البقاء والاستمرار.
ورأى أن الهوية المصرية ليست هشّة ولا قابلة للكسر، بل مترابطة وممتدة عبر سبعة أعمدة حضارية، تجعلها قادرة على الوقوف من جديد مهما كانت الضربات.
لم يتعامل حنا مع الهزيمة كنهاية، بل كبداية. بداية نقد صريح، وبحث صادق عن الأخطاء، ورغبة في إعادة بناء الإنسان قبل الحجر.
ظل يدعو طوال حياته إلى الديمقراطية، احترام التعدد، حماية الحريات، ومقاومة الاستبداد بكل صوره.
تجربة نكسة 67 صاغت ميلاد حنا من جديد، وحوّلته من مهندس في مواقع القتال إلى مفكر يقف في الصفوف الأمامية للدفاع عن الإنسان وكرامته.













0 تعليق