Advertisement
وفق المعطيات المتوافرة، يعرض الجيش في تقريره الجديد حصيلة ما أنجزه منذ بداية الخطة بالأرقام، على مستوى تفكيك منشآت عسكرية جنوب الليطاني، وإقفال عدد من الأنفاق، وضبط أكثر من عشرة مخابئ للأسلحة، إلى جانب تعزيز الانتشار في المناطق الحدودية، والتشديد عبر لجنة وقف الأعمال العدائية على توثيق الخروقات الإسرائيلية والتمسك بدور الجيش في حفظ الاستقرار على كامل التراب الوطني.
بالتوازي، تتحدث تقارير عن مهلة أميركية "ضيقة" مُنحت للسلطات اللبنانية حتى نهاية الشهر الجاري لإنجاز خطوات ملموسة في اتجاه حصرية السلاح وتثبيت القرار 1701. هنا يبرز السؤال: هل ما يجري هو بداية مسار جدّي لترتيب ملف سلاح "حزب الله" تحت سقف الدولة، أم مجرد محاولة جديدة لشراء الوقت في مواجهة الضغوط الإسرائيلية والأميركية المتزايدة، في وقت لا يبدو "حزب الله" في وارد تغيير موقفه الرافض للتفريط بما يصفها "أوراق القوة"بدليل البيان الذي اصدره اليوم وجاء فيه" أن الوقت الراهن هو لتوحيد الجهود من أجل وقف الانتهاكات والعدوان والتمادي الصهيوني ضد بلدنا ودفع المخاطر الأمنية والوجودية عنه".
خطة حصر السلاح.. تقدّم "لافت"
بحسب ما توافر من معطيات، فإنّ التقرير الذي أعدّه الجيش حول خطة حصر السلاح يتحدث عن "تقدّم لافت" على صعيد تنفيذ المرحلة الأولى؛ إذ يكشف عن إنجاز ما يناهز 90% من مهام هذه المرحلة، تشمل عمليات دهم وتفكيك منشآت وإقفال أنفاق ومصادرة مخازن أسلحة. كما يشير إلى استمرار عملية توثيق الخروقات الإسرائيلية المتواصلة لاتفاق وقف إطلاق النار جوًا وبرًا، مؤكّدًا جهوزيّته للتصدي لأي توغّل جديد، تبعًا لطلب الرئيس.
لكن خلف التفاصيل التقنية، يحمل التقرير بعدًا سياسيًا واضحًا. فهو يكرّس الجيش لاعبًا أساسيًا في خطة حصر السلاح، لا مجرّد جهاز تنفيذي. حتى إنّ هناك من يرى أن توجيه الرئيس عون للجيش بالتصدي لأي توغّل إسرائيلي لم يكن فقط ردًا على التهديدات، بل محاولة لإعادة تعريف دور المؤسسة العسكرية في المعادلة الدفاعية، وتقديمها نظريًا كمرجع أول في حماية الحدود، بما يعني في نظر هؤلاء إعادة ترسيم الأدوار مع "حزب الله" أكثر مما يعني استبعادَه بالكامل.
وبمعزل عن الانقسام السياسي داخل البلاد حول موقع كلّ من الجيش و"حزب الله" في معادلة الردع، وحول حدود التعاون مع الولايات المتحدة، فإنّ الثابت، وفق العارفين، أنّ الدولة اللبنانية توجّه من خلال هذا التقرير "رسالة" إلى المجتمع الدولي مفادها أنها ماضية في خطة حصر السلاح، مع التشديد على أولوية حفظ الاستقرار. وهي رسالة "ضمنية" إلى واشنطن خصوصًا، التي عبّرت من خلال تصريحات مبعوثها توم براك عن استيائها من بطء التنفيذ.
بين المهلة الأميركية والضغط الإسرائيلي
هي إذًا محاولة رسمية أخرى لإبعاد "كرة النار" الإسرائيلية، في ظلّ التهديدات المتصاعدة بما يسمّيه البعض في تل أبيب "المعركة الأخيرة" في الشمال، محاولة تضاف إلى "المبادرة" التي أطلقها الرئيس جوزاف عون بإعلانه استعداد لبنان للتفاوض مع إسرائيل حول النقاط العالقة. لكن يبدو أن كلّ هذه التحركات لا تزال تصطدم، ليس فقط بتعنّت إسرائيلي واضح، وإنما أيضًا بعدم حماسة واشنطن، التي تبدو كمن يتخلى تدريجيًا عن دور "الوسيط" لمصلحة دور الضاغط.
فعلى الرغم من التسريبات الدبلوماسية التي تحدّثت عن طلب واشنطن من تل أبيب تجميد خطط التصعيد حتى نهاية الشهر، وعن إبلاغ لبنان بأنّ أمام الجيش "مهلة" حتى أواخر الشهر لإنجاز تقدّم واضح وملموس في ملف حصرية السلاح، لا يبدو الموقف الأميركي عمليًا مختلفًا جوهريًا عن النظرة الإسرائيلية، أقلّه من زاوية الضغط على الدولة اللبنانية في ملف السلاح، وهو ما يتجلى بوضوح في تصريحات توم براك، الذي قال إن الولايات المتحدة ستدعم "حليفتها" إسرائيل في حال قرّرت تصعيد هجماتها ضدّ "حزب الله".
في هذا الوقت، تستغلّ إسرائيل عامل الوقت إلى أقصى حدّ. فالتصعيد الميداني لا يتوقف، بل يتصاعد في الوتيرة والنوع أيضًا، فيما تبلغ "الحرب النفسية" ذروتها عبر تسريبات إعلامية لا تهدأ، تتحدث عن "شروط عالية السقف" تضعها تل أبيب لتفادي الحرب، على رأسها نزع سلاح الحزب أو تحييده جذريًا عن الحدود. أما الضخّ الإعلامي المتواصل حول قدرات "حزب الله" العسكرية، فيراه كثيرون تمهيدًا لحرب محتملة، أكثر مما هو مجرد استعراض لقوة الردع.
هل يضيق هامش المناورة اللبناني؟
عمليًا، يجد لبنان نفسه اليوم أمام معادلة دقيقة: من جهة، يسعى إلى طمأنة الداخل والخارج بأن خطة حصر السلاح تتقدم، ولو ضمن حدود توازنات معقّدة لا يمكن القفز فوقها. ومن جهة أخرى، يحاول استيعاب الضغوط الأميركية والإسرائيلية المتزايدة، التي وصلت حدّ التلويح بحرب شاملة ضمن مهلة غير معلنة رسميًا، لكنها معلومة في الكواليس الدبلوماسية.
في المقابل، لا يبدو "حزب الله" في موقع مريح تمامًا. فاستمرار الاستنزاف على الجبهة الجنوبية يطرح عليه هو أيضًا أسئلة حول حدود التصعيد وحدود التنازل، وحول مدى قدرته على الفصل بين "سلاح المقاومة" والحسابات اللبنانية الداخلية. لكن الحزب، حتى الآن، يفضّل إبقاء هامش الغموض قائمًا، رغم البيان الذي اصدره اليوم وفند فيه موقفه ، مع التشديد على أن أي نقاش في مستقبل سلاحه يجب أن يكون "داخليًا" وتحت سقف حماية لبنان من "التهديد الإسرائيلي"، لا استجابة لضغوط خارجية.
في المحصّلة، يضيق هامش المناورة اللبنانية بين خطاب رسمي يراهن على التدرّج وشراء الوقت، وضغوط إسرائيلية - أميركية ترفع السقف تباعًا، وسلاح "حزب الله" الذي لا يزال في صلب الاشتباك السياسي. ولعلّ التحدّي الحقيقي يكمن في قدرة الدولة على بلورة مسار تفاوضي متماسك وواضح، بدل الاكتفاء بخطوات مجتزأة وقراءات متناقضة؛ إذ إنّ أيّ فشل في بناء هذا المسار قد يجرّ لبنان نحو مواجهة لا يملك ترف خوضها، ولا رفاهية تحمّل نتائجها.











0 تعليق