Advertisement
ترى مصادر سياسية مطّلعة، أن فوز ممداني لا يُقرأ بوصفه نتاجاً لهويةٍ أو لأقليّة، بل كإشارةٍ على بروز جيلٍ سياسيّ جديد يضع القيم المدنية في صلب الشرعية السياسية. وعليه، لم يكن فوزه نتيجة حملةٍ انتخابية ناجحة بقدر ما كان تعبيراً عن نهاية مرحلةٍ من الصمت بين الناخب والمؤسسة. فالمدن الكبرى التي كانت تاريخياً مختبراً للسياسات الحزبية تحوّلت اليوم إلى منصّةٍ لمساءلتها، ما يعكس انتقال المجتمع الأميركي من موقع المتلقّي إلى موقع الفاعل.
وعلى المستوى الداخلي، أحدث هذا التحوّل ارتباكاً داخل "الحزب الديمقراطي". فمن جهة، لا يمكن لقيادته التقليدية تجاهل صعود "التيار التقدّمي" الذي بات يمتلك لغةً أكثر تأثيراً من الخطاب الرسمي، ومن جهة أخرى، تجد الإدارة الأميركية نفسها مضطرة إلى إعادة ترتيب أولوياتها في قضايا الحريات والتمييز والعدالة الاجتماعية، بعدما تحوّلت هذه الملفات من شعاراتٍ إلى معاييرٍ للصدقية السياسية. وهكذا، لم يعد فوز ممداني تحدّياً لحزبٍ أو رئيسٍ بعينه، بل للنموذج السياسي الأميركي ذاته، القائم منذ عقود على الموازنة الشكلية بين المبادئ والمصالح.
في المقابل، ينظر الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى هذا الحدث باعتباره مؤشراً على تغيّر البيئة التي استند إليها مشروعه الشعبوي. فصعود شخصيات مثل ممداني يُضعف روايته التقليدية القائمة على استثمار الانقسام الثقافي والديني داخل المجتمع، ويكشف في الوقت نفسه تحوّل المدن الكبرى إلى بيئات سياسية لم تعد تستجيب لخطابه. ووفق المصادر، فإنّ ترامب يحاول تحويل فوز ممداني إلى أداة تعبئة جديدة لقواعده المحافظة عبر تصويره كرمزٍ لهيمنة النخب الليبرالية، غير أنّ هذا الطرح، بحسب المصادر نفسها، يفقد زخمه أمام واقعٍ اجتماعي بات يرى في التنوّع قيمةً وطنية لا تهديداً. وهكذا، يتحوّل فوز ممداني إلى اختبارٍ حقيقي لقدرة ترامب على التأقلم مع مرحلةٍ تغيّرت فيها أولويات الناخب الأميركي.
ولعلّ هذا التحوّل الداخلي لا يمكن فصله عن المشهد الدولي. فالاضطراب الذي يشهده النموذج السياسي الأميركي يأتي في لحظةٍ تتراجع فيها جاذبية النموذج الغربي برمّته، فيما تتقدّم قوى جديدة في الشرق والجنوب العالمي تطرح مقارباتٍ مختلفة للقيادة والتحالف. ومن هذا المنظور، يُقرأ فوز ممداني ضمن سياقٍ أوسع لإعادة تعريف معايير الشرعية السياسية عالمياً، حيث لم تعد القوة العسكرية أو الاقتصادية كافية لتثبيت النفوذ، بل باتت القيم والصدقية والموقف الأخلاقي جزءًا أساسياً من معادلة التأثير.
في المحصّلة، يختصر فوز ممداني المأزق البنيوي الذي تعيشه الولايات المتحدة الاميركية اليوم، فهي دولة تملك أدوات القوّة لكنها تفقد تدريجياً قدرتها على إنتاج شرعيةٍ سياسية تُقنع الداخل قبل الخارج. فالتحوّل الذي بدأ من داخل المجتمع الأميركي لم يعد مجرّد تحدٍّ حزبي، بل مراجعة لمفهوم السلطة نفسه، من أدوات الحكم إلى صدقيّة الخطاب. وفي الوقت الذي يسعى فيه ترامب إلى استثمار الانقسام لتعزيز نفوذه، تكتشف المؤسسة الحاكمة أنّ الشارع الذي شكّل قاعدة استقرارها لم يعد يسير بإيقاعها، بل صار يفرض عليها إيقاعه. بذلك، يتجاوز فوز ممداني حدود السياسة المحلية، ليكشف بداية مرحلةٍ جديدة في النظام الأميركي، حيث لم تعد واشنطن قادرة على إدارة تناقضاتها بالخطاب، بل مضطرة إلى مواجهة أزمتها من الداخل.










0 تعليق