أكدت الدكتورة أمل أحمد حامد عبد العزيز البيلي، أستاذ التاريخ القديم بكلية الآداب – جامعة المنصورة، أن العصر اليوناني في مصر (332 – 30 قبل الميلاد) مثّل مرحلة مفصلية في تاريخ الحضارة المصرية، حيث شهد تطورًا فكريًا وعلميًا ومعماريًا وزراعيًا واسعًا، وبرزت فيه أسماء ملكات تركن بصمات مؤثرة على مسار الحكم والثقافة والاقتصاد.
وأوضحت الدكتورة أمل البيلي في تصريح خاص لـ«البوابة نيوز» أن تدوين التاريخ المصري القديم في تلك الحقبة تم على يد الكاهن والمؤرخ المصري الكبير مانيتون السمنودي، الذي كُلّف من الملك بطلميوس الثاني فيلادلفوس بتدوين تاريخ مصر، مشيرة إلى أن مانيتون كان عالمًا وخبيرًا في الديانة والتاريخ المصري القديم، وكتب مؤلفه الشهير باللغة اليونانية، ليصبح أحد أهم المراجع التي وثّقت تسلسل الأسرات المصرية القديمة وأحداثها السياسية والدينية.
نهضة معمارية وفنية
وأضافت البيلي أن العصر اليوناني شهد نهضة معمارية وفنية متميزة، تمثلت في ظهور طراز معماري يجمع بين الفن المصري القديم والفن اليوناني والروماني، مشيرة إلى أن هذا المزيج الحضاري ما زال واضحًا في عدد من المعابد الباقية حتى اليوم، مثل معبد فيلة (معبد الإلهة إيزيس) بمدينة أسوان، الذي يعكس مزيجًا جماليًا بين الرموز المصرية التقليدية والعناصر الإغريقية الزخرفية.
ازدهار الزراعة والصناعة والتجارة
وتابعت أستاذة التاريخ أن تلك الحقبة شهدت تطورات بارزة في القطاع الزراعي، حيث أُدخلت إلى مصر محاصيل جديدة مثل الزيتون والكروم وأنواع مختلفة من فواكه حوض البحر المتوسط، كما تم استئناس سلالات جديدة من الحيوانات بينها الخيول والبغال وأنواع مميزة من الأبقار والأغنام والماعز.
وأشارت إلى أن هذا الازدهار الزراعي انعكس بدوره على تطور الصناعة المصرية القديمة، التي ارتبطت بالمنتجات الزراعية والحيوانية، مما ساهم في ازدهار التجارة الداخلية والخارجية، وجعل مصر مركزًا مهمًا لتبادل السلع والثقافات في العالم القديم.
الملكات ودورهن في الحياة السياسية والعلمية
وأبرزت الدكتورة أمل البيلي الدور الكبير الذي لعبته الملكات البطلميات في تلك الفترة، مشيرة إلى أن بعضهن كان لهن تأثير مباشر في السياسة والاقتصاد والفنون والعلوم.
وقالت: إن من أبرز هؤلاء الملكات الملكة أرسينوي الثانية، زوجة الملك بطلميوس الثاني فيلادلفوس، التي كان لها تأثير كبير في توجيه سياسة الملك الخارجية، كما دعمت العلوم والفنون وشجعت على بناء المعابد وتنشيط التجارة الخارجية، ما جعلها نموذجًا للمرأة الحاكمة ذات البصمة السياسية والثقافية.
وتناولت بالحديث الملكة برنيكي الثانية، زوجة الملك بطلميوس الثالث، التي شاركت في إدارة شؤون البلاد والمشاركة في الحملات العسكرية، إلى جانب اهتمامها بالعلوم والفنون، مؤكدة أن تلك الملكات ساهمن في ترسيخ مكانة المرأة في الحياة العامة المصرية خلال العصر البطلمي.
مزيج حضاري ثري
وأشارت في تصريحها غلى أن العصر اليوناني – البطلمي في مصر كان مرحلة تفاعل حضاري فريد بين الثقافات المصرية واليونانية والرومانية، وأنه رغم الهيمنة السياسية الأجنبية في تلك الفترة، فإن الهوية المصرية ظلت حاضرة بقوة في الفن والدين والعمران، لتبقى تلك الحقبة شاهدًا على قدرة الحضارة المصرية على استيعاب التأثيرات الخارجية وإعادة صياغتها بطابعها الخاص.
كليوباترا السابعة نموذج فريد للمرأة المصرية
أكدت "البيلي"، أن الملكة كليوباترا السابعة تمثل نموذجًا فريدًا للمرأة المصرية القوية والواعية سياسيًا، إذ كانت آخر ملكات البطالمة والحاكمة الفعلية لمصر، وسعت بكل ذكاء للحفاظ على استقلال البلاد عن روما في واحدة من أكثر الفترات حساسية في تاريخها القديم.
وأوضحت أن كليوباترا اتبعت سياسة تحالفات استراتيجية مع القادة الرومان مثل يوليوس قيصر وماركوس أنطونيوس في محاولة للحفاظ على سيادة مصر ومكانتها، مشيرة إلى أنها أتقنت اللغة المصرية القديمة رغم أصولها المقدونية، وكانت شغوفة بالتراث الفرعوني وداعمة للعلوم والفنون، كما أولت مكتبة الإسكندرية اهتمامًا خاصًا باعتبارها مركز إشعاع حضاري ومعرفي في العالم القديم.
مصر في العصر الروماني.. ولاية غنية ومؤثرة
وأضافت البيلي أن مصر خلال العصر الروماني (30 – 284 قبل الميلاد) كانت أغنى ولايات الإمبراطورية وأعظمها تأثيرًا اقتصاديًا واستراتيجيًا، حيث خضعت بشكل مباشر لإشراف الإمبراطور الروماني. وأصبحت مصر سلة غذاء العالم الروماني لما كانت تنتجه من القمح والسلع الاستراتيجية التي اعتمد عليها الرومان في تغذية جيوشهم ومدنهم.
وأشارت إلى أن الصناعة المصرية ازدهرت خلال تلك الحقبة، خصوصًا في النسيج والكتان والزيوت والعطور والزجاج، حيث تميزت الإسكندرية والفيوم كمركزين صناعيين وتجارين هامين، فيما تحولت الإسكندرية إلى أهم ميناء تجاري في البحر المتوسط، ونشطت عبرها حركة التجارة مع الهند وشرق إفريقيا عبر البحر الأحمر.
الإسكندرية مركز للعلم والفكر والفلسفة
وتابعت البيلي أن الإسكندرية استمرت خلال العصر الروماني مركزًا عالميًا للعلم والفكر والفلسفة، وبرز منها علماء مصريون ويونانيون كان لهم إسهامات بارزة في الرياضيات والفلك والميكانيكا، من أبرزهم بطليموس الفلكي، وهيرون السكندري، وديونيسوس التيلوسي.
وأكدت أن المصريين في تلك الحقبة حافظوا على ديانتهم التقليدية وواصلوا عبادة الآلهة القديمة مثل إيزيس وأوزوريس وحورس، قبل أن تشهد البلاد انتشار الديانة المسيحية تدريجيًا منذ القرن الأول الميلادي، لتتحول مصر لاحقًا إلى مركز للفكر المسيحي في العالم القديم عبر الكنيسة القبطية التي لعبت دورًا محوريًا في الحفاظ على الهوية الدينية والثقافية المصرية.
الهوية المصرية باقية عبر العصور
وختمت الدكتورة أمل البيلي تصريحها بالتأكيد على أن المصري خلال العصرين اليوناني والروماني ظل متمسكًا بهويته رغم موجات التأثير الأجنبي، فاحتفظ بلغته ودينه وعاداته وطقوسه اليومية، خاصة في القرى والمجتمعات المحلية، مشيرة إلى أن هذا الثبات الثقافي جعل الهوية المصرية تصمد عبر العصور وتبقى حية حتى اليوم، لتجسد مثالًا على قوة الانتماء الوطني وعمق الجذور الحضارية للمجتمع المصري.
















0 تعليق