في عام 1913، شهدت جنوب أفريقيا واحدة من أبرز اللحظات في مسيرة الزعيم الهندي المهاتما غاندي، عندما اعتقل أثناء قيادته مسيرة سلمية لعمال المناجم الهنود الذين كانوا يحتجون على القوانين العنصرية الجائرة المفروضة عليهم، لم يكن هذا الحدث مجرد واقعة عابرة في تاريخ النضال ضد التمييز، بل كان نقطة تحول كبرى في مسيرة غاندي التي بلورت فلسفته في المقاومة السلمية، وأرست دعائم حركة "الساتياجراها" التي غيرت وجه العالم.
في تلك الفترة، كانت جنوب أفريقيا تعاني من نظام عنصري صارم يميز بين البيض والسود والهنود، وضع الهنود الذين جلب معظمهم كعمال في المناجم أو كخدم تحت قوانين مجحفة تقيد حركتهم وتفرض عليهم ضرائب خاصة، بل وتجبر النساء والأطفال على حمل بطاقات هوية، وكان من بين تلك القوانين ما يعرف بـ"قانون التسجيل الآسيوي"، الذي اعتبره غاندي إهانة للكرامة الإنسانية، ودليلًا على الاستعباد المقنع.
رد غاندي على هذا الظلم بحملة عصيان مدني سلمية، دعا فيها العمال الهنود إلى الامتناع عن العمل والخروج في مسيرات احتجاجية سلمية، كانت مسيرة عام 1913 من أهم تلك التحركات، حيث سار غاندي ومعه آلاف العمال الهنود عبر مقاطعة ناتال صوب ترانسفال، متحدين القوانين التي تمنعهم من التنقل دون تصريح.
تحولت المسيرة إلى رمز عالمي للمقاومة السلمية، إذ أظهر المشاركون انضباطًا لافتًا رغم القمع الذي واجهوه من الشرطة، التي استخدمت العنف لتفريقهم واعتقلت المئات منهم، وكان من بين المعتقلين غاندي نفسه، الذي اقتيد إلى السجن في مشهد أثار تعاطف الرأي العام المحلي والدولي.
لكن الاعتقال لم يضعف عزيمته، بل زاده إصرارًا على المضي في طريق اللاعنف، فخلال فترة سجنه، كتب غاندي رسائل عديدة دعا فيها إلى التمسك بالمبادئ الأخلاقية والروح الإنسانية في مواجهة الظلم، كما حث أتباعه على الاستمرار في النضال السلمي دون اللجوء إلى العنف مهما بلغت الاستفزازات.
أحدثت الحملة ضجة واسعة، وأجبرت الحكومة البريطانية في جنوب أفريقيا على إعادة النظر في سياساتها تجاه الهنود، وفي نهاية المطاف، تم التوصل إلى تسوية جزئية تم بموجبها إلغاء بعض القوانين الجائرة، وهو ما اعتبره غاندي انتصارًا أخلاقيًا أكثر منه سياسيًا.
لقد كانت تجربة غاندي في جنوب أفريقيا، وخصوصًا حادثة اعتقاله عام 1913، بمثابة المدرسة التي صاغت فلسفة النضال السلمي التي سيطبقها لاحقًا في الهند لتحريرها من الاستعمار البريطاني، ومن رحم تلك المعاناة ولدت فكرة أن القوة الحقيقية لا تكمن في السلاح، بل في ثبات المبدأ وإيمان الإنسان بعدالة قضيته.
وهكذا، لم يكن اعتقال غاندي مجرد حدث سياسي، بل كان إعلانًا لميلاد منهج جديد في مقاومة القهر، منهج غير مجرى التاريخ، وألهم حركات التحرر في كل مكان، بقيت تلك المسيرة السلمية شاهدًا خالدًا على أن النضال الهادئ والصبر العنيد يمكن أن يزلزلا عروش الطغيان، وأن الحرية تنتزع أحيانًا بلا رصاصة واحدة، بل بإرادة لا تنكسر.











0 تعليق