تابعتُ خلال الساعات الماضية ردود الأفعال المتباينة حول افتتاح المتحف المصرى الكبير، هذا الصرح الفريد من نوعه فى العالم، والذى يُعد من أهم المشاريع الثقافية والحضارية فى التاريخ الحديث لمصر.
وكما هو متوقع فى حدث بهذا الحجم، تنوعت الآراء بين منبهر بعظمة الاحتفالية وروعتها، ومن رأى بعض جوانب القصور، وآخرين ركزوا على تتبّع التفاصيل ورصد الأخطاء التنظيمية.
هناك من أدرك أن الاحتفالية خُطط لها لتخاطب شعوب العالم، فكان اختيار نوع الموسيقى والإخراج مناسبًا لطبيعتها العالمية ورسالتها الثقافية الراقية.
وفى المقابل، هناك من كان يتمنى لمسات موسيقية أكثر دفئًا وتعبيرًا عن الهوية المصرية، لتلامس مشاعره وتُشعل بداخله إحساس الفرح الشعبى بكل ما يحمله من طاقة وانتماء.
وكلا الطرفين على حق، فهى فى النهاية مسألة ذوق ورؤية فنية.
كما أن هناك من يدرك أن حفل افتتاح المتحف المصرى الكبير لا يمكن مقارنته بحفل موكب المومياوات الملكية، لاختلاف الهدف والمضمون والظروف؛ فلكل حدث خصوصيته ورسالته.
بينما يرى آخرون أن موكب المومياوات كان المعيار الذى يقيسون عليه، فكانت لديهم توقعات برؤية عرض يفوقه أو يوازيه فى الإبهار والتأثير.
لكن ما لفت انتباهى هو أن كل هذه الآراء رغم اختلافها تجتمع على حب واحد: حب مصر.
فجميعهم، منبهرون وناقدون، يتفقون على أنهم يريدون الأفضل لبلادهم، ويحلمون أن تظل مصر فى القمة، مشرقة، متألقة، نتباهى بها أمام العالم أجمع.
ومن الطبيعى أن تتباين وجهات النظر، فالمتحف مشروع قومى ضخم و«ملكية عامة» لكل المصريين، ومن حق الجميع إبداء آرائهم.
لكن قبل أن نحكم على المشهد، علينا أن نتذكر حجم الجهد المبذول خلف الكواليس. نحن نتحدث عن آلاف الأشخاص الذين عملوا لسنوات طويلة، وسهروا الليالى، وواجهوا ضغوطًا نفسية وجسدية هائلة ليخرج هذا العمل إلى النور بهذه الصورة المبهرة.
ليس الهدف تبرير الأخطاء أو إلغاء النقد، بل وضعه فى سياقه العادل. فالنقد البنّاء ضرورة لتطوّر أى عمل، لكنه يختلف عن النقد الهدّام الذى ينسف مجهود الآخرين بكلمة أو تعليق عابر. وكما يُقال: «ولولا اختلاف الأذواق لبارت السلع».
الاحتفالية، بكل تفاصيلها، كانت نتاج جهد جماعى هائل من مؤسسات الدولة المختلفة: من الإعداد اللوجستى، إلى التنظيم الفنى، وصولًا إلى التغطية الإعلامية.
وقد أظهرت مصر بصورة حضارية أمام العالم، وتناولت وسائل الإعلام الدولية الحدث باهتمام لافت، فى سابقة تؤكد أننا نجحنا أخيرًا فى تسويق صورتنا الإيجابية عالميًا بعد سنوات من الانتقادات فى هذا المجال.
والدليل ما نشره العديد من الضيوف على صفحاتهم، وما تداولته المنصات الإعلامية الأجنبية من إشادات بالحفل والتنظيم.
كما أعجبنى أداء السفارات المصرية فى الخارج، التى شاركت فى الحدث بتنظيم عروض بث مباشر داخل مقارها، ودعوة عدد من الشخصيات العامة والدبلوماسيين لمتابعة الاحتفالية، فى خطوة ذكية أسهمت فى توسيع نطاق الحضور الدولى للمناسبة.
وهذا يؤكد أننا، من خلال هذه الاحتفالية، خاطبنا العالم كله برسالة حضارية راقية. ومع ذلك، فإن الاحتفال الحقيقى لا يتوقف عند يوم الافتتاح؛ فزيارة المتحف اليوم هى استمرار للاحتفالية، وفرصة لكل مصرى أن يحتفل بطريقته الخاصة داخل هذا الصرح العظيم.
ومن الزاوية الإنسانية، لفتت الأنظار ملامح الرئيس عبدالفتاح السيسى خلال الافتتاح؛ فرغم الإنجاز الضخم الذى تحقق، بدت على وجهه ملامح الانشغال والهمّ، وكأن عبء الملفات الخارجية والداخلية لا يفارقه حتى فى لحظات الإنجاز.
هذه الملاحظة تُبرز حجم المسئولية التى يتحملها، ومدى إدراكه لحساسية المرحلة التى تمر بها الدولة المصرية، وربما من الواجب أن نُبدى بعض الرحمة والإنصاف فى أحكامنا، فالتحديات التى تواجه القيادة لا تقل صعوبة عن تلك التى واجهها العامل البسيط الذى شارك فى البناء.
أما رجال الأمن، فلابد من توجيه التحية والتقدير لهم على أدائهم المتميز خلال الحدث، سواء فى التنظيم أو التأمين أو الانضباط، فقد كانت جهودهم جزءًا لا يتجزأ من نجاح الافتتاح.
كل الشكر والتقدير لكل من اجتهد وعمل ليُظهر حفل افتتاح المتحف المصرى الكبير بهذه الصورة المشرفة، التى أكدت للعالم أن مصر قادرة على الإبداع، وعلى الجمع بين الحضارة والعصرية فى مشهد يليق بعظمتها وتاريخها.
وفى الختام، يظل افتتاح المتحف المصرى الكبير علامة مضيئة فى مسيرة مصر الحديثة، وإنجازًا وطنيًا جماعيًا يستحق الفخر.
النقد مطلوب، نعم، لكنه يجب أن يكون فى إطار من الاحترام والوعى والإنصاف، حتى لا نهدم بألسنتنا ما بناه الآخرون بعرقهم وسهرهم.
وسواء كنت من المؤيدين أو من المنتقدين، يكفينا فخرًا أن لدينا اليوم متحفًا يخلّد حضارتنا العظيمة ويقدّمها للعالم بصورة تليق باسم مصر ومكانتها.






0 تعليق