في لحظة تشبه انبعاث أساطير المصريين القدماء من بين طيات سجل الزمن، وقفت مصر بالأمس لتُعلن للعالم ميلاد أعظم وأشرف متحف أثري على وجه الأرض، فتحت سفح الأهرامات الخالدة افتتح الرئيس عبد الفتاح السيسي المتحف المصري الكبير في احتفال تاريخي جمع بين عبق الماضي وروح الحاضر، ليكتب فصلًا جديدًا في ملحمة الحضارة المصرية التي لا تزال تنبض بالحياة منذ أكثر من 7 آلاف عام.
المتحف المصري الكبير ليس الأعظم والأشرف لأنه يُعد الأكبر في العالم المتخصص في الحضارة المصرية القديمة بل لإنه المتحف الوحيد في العالم الذي لا تضم جنباته أثرا واحدا مسروقا أو مغتصبا أو انتزع من أرض وحضارة أخرى لتتزين بها أركانه وجنباته ويجذب الزوار.
متحفنا الجديد.. متحف المصريين منهم وإليهم على كل قطعة منه يمكننا أن يكتب بكل فخر«صنع في مصر» ولا يستطيع أن ينازعنا أحد على صحة أو صدق هذه العبارة، فهو يُمثّل نحو 5 أضعاف حجم المتحف البريطاني في لندن، وضعفَي حجم متحف اللوفر في باريس، وضعفَي حجم متحف المتروبوليتان في نيويورك وهي كبرى متاحف العالم ولكنها ليست على نفس المستوى من الصدق والطهارة والشرف الذي أسس وافتتح به المتحف المصري الكبير فلم تمتد أيضا لأثر من هنا أو مسلة من هناك بل كانت قطعة قد كتبت صك براءتها بحبات رمال أرض مصر من أقصى جنوب الدولة المصرية حتى آخر حبة رمل في شمالها.
متحفنا يضم 12 صالة عرض، تغطي الفترات من عصور ما قبل التاريخ، وحتى نهاية العصر الروماني، وقد صُمم بأحدث التقنيات العالمية في العرض والإضاءة، مع الاعتماد على الوسائط التفاعلية التي تتيح للزائر تجربة فريدة تربط بين المعرفة والمتعة البصرية، وحصل على شهادة المباني الخضراء ليكون أول متحف أخضر في إفريقيا والشرق الأوسط، فأنى أن يكون هناك مجال للمقارنة بينه وبين غيره.
كانت الكلمة التي ألقاها الرئيس السيسي في الافتتاح بمثابة وثيقة وطنية تُعيد تعريف العلاقة بين المصري وتاريخه، قال الرئيس: « اليوم لا نفتتح مجرد متحف يضم كنوز أجدادنا، بل نفتتح بوابة المستقبل الذي يُبنى على أساس من الحضارة والعلم والمعرفة»، بهذه العبارة اختصر السيسي فلسفة المشروع، أن الماضي ليس حكاية تُروى بل رسالة تستمر، وأن عظمة الأجداد لا تُحفظ في الزجاج بل تُترجم إلى طاقة إبداع تُلهم الأجيال الجديدة.
اقرأ أيضا.. من السفارات المصرية لغزة.. كيف فضحت الأزمات الوجه القبيح لازدواجية المبادئ والديموقراطية الغربية؟
بوابة جديدة على طريق التاريخ
منذ اللحظة الأولى لمشهد القاعة الكبرى، حيث يقف تمثال الملك رمسيس الثاني شامخًا في بهو المدخل، بدا المشهد وكأن التاريخ ذاته يرحب بالزائرين، الأضواء تنعكس على الأعمدة الحجرية، والعروض التفاعلية تروي للأعين ما كانت الألسنة تعجز عن وصفه، في تلك اللحظة أدرك كل من حضر أن مصر لا تُعيد عرض آثارها فحسب، بل تُعيد تقديم نفسها للعالم في ثوب حضاري حديث يليق بأقدم دولة ذات هوية متصلة في التاريخ.
المتحف المصري الكبير ليس مجرد مبنى فخم على مساحة تقارب 500،000 متر مربع بالقرب من أهرامات الجيزة، بل مشروع قومي يجسد فلسفة مصر الجديدة التي تمزج بين الأصالة والمعاصرة، يضم المتحف أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، من بينها المجموعة الكاملة للملك الذهبي توت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة في مكان واحد.
رسالة سلام من أرض الحضارة
كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي جاءت محمّلة بالمعاني والرمزية تماما كاللغة الهيروغليفية القديمة بنقوشها على جدران المعابد، فالكلمة لم تكن مجرد ترحيب رسمي بالحضور، بل رسالة حضارية للعالم أجمع، قال الرئيس إن هذا المتحف «رسالة سلام من مصر إلى الإنسانية كلها، وإن من يقرأ تاريخنا يدرك أننا لم نبنِ حضارتنا بالحروب أو العدوان، بل بالعلم والعمل والإيمان»، تلك العبارة في بساطتها وعمقها تختصر جوهر الهوية المصرية التي جعلت من النيل حضارةً، ومن الصحراء مدينةً، ومن الأحجار ذاكرةً خالدة.
وتابع الرئيس السيسي خلال كلمته إن هذا المتحف «يُقدّم رسالة فخر واعتزاز بكل ما أنجزه المصريون عبر التاريخ، ويؤكد أننا نواصل البناء كما بنى أجدادنا»، هذه الجملة البسيطة تحمل بين حروفها فلسفة حكم وإدارة تقوم على الإيمان بالذات الوطنية كقوة دافعة للتقدم، إنها ليست مجرد كلمات احتفالية، بل إعلان لمرحلة جديدة تُعيد فيها الدولة المصرية صياغة مشروعها الثقافي على أساس من الوعي بالهوية.
إن افتتاح هذا الصرح العظيم لا يُعد حدثًا ثقافيًا فحسب، بل هو أيضًا إنجاز اقتصادي وسياحي واستراتيجي، فالمتحف الذي يُتوقع أن يستقبل أكثر من خمسة ملايين زائر سنويًا يمثل إضافة نوعية إلى خريطة السياحة المصرية، كما أنه يوفر آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، فضلًا عن تنشيط قطاع الخدمات الفندقية والنقل الثقافي، وإعادة توزيع الحركة السياحية بما يعزز التنمية المستدامة في منطقة الجيزة.
اقرأ أيضا.. بعد تهديد إسرائيل للخليج.. هل أصبحت القوة العربية المشتركة وخطوط مصر الحمراء معركة وجود؟
السردية المصرية تغرد من جديد بأحضان الأهرامات
ولعل الأهم من الأرقام هو ما يمثله المتحف من “استرداد للخطاب الحضاري المصري”، فبعد عقود كانت فيها آثار مصر تُعرض في متاحف العالم الكبرى، يأتي هذا المشروع ليعيد السردية المصرية إلى موطنها الأصلي بين جنبات ورمال الوطن فتنطق آثار الأجداد لتحكي قصة حضارة هي الوحيدة التي أصبح أكبر متحف لها وحدها لا يشاركها فيه أحد في تحصيل نظرات الانبهار والإعجاب والذهول والدهشة من دقة النحت وروعة التصوير وجودة اللون بعد آلاف من الأعوام تظهر فياه الحضارة المصرية فتية قوية نضرة كأن نقوشها خطت بالأمس ولا منذ 7 آلاف عام.
ويُظهر أن الحضارة المصرية لا تزال قادرة على أن تُحدث الدهشة وأن تُجدد نفسها بعيون العصر، لقد استطاعت مصر رغم التحديات الاقتصادية والسياسية أن تُنجز هذا المشروع العملاق بتصميم مصري وإدارة مصرية، لتثبت مرة أخرى أنها قادرة على تحويل الحلم إلى واقع.
عودة الوعي الجمعي بالحضارة المصرية
حين تتأمل في تفاصيل الافتتاح تدرك أن مصر لم تكن تفتتح متحفًا فقط، بل كانت تُعلن عودة الوعي الجمعي بحضارتها، فالموسيقى التي صاحبت الحفل استلهمت الألحان المصرية القديمة بتوزيع أوركسترالي حديث، والديكورات حملت رموزًا من المعابد والنقوش دون أن تسقط في فخ التقليد أو المبالغة، الحفل كان لوحة فنية متكاملة توازن بين الرصانة والجمال، بين التاريخ والحداثة، بين الأصالة والعولمة.
المتحف المصري الكبير في رمزيته يمثل أكثر من مجرد معلم أثري، إنه رسالة ثقافية عالمية تقول إن الحضارة المصرية لا تزال قادرة على قيادة الحوار الإنساني حول معنى الجمال والخلود، فالمكان الذي شهد ميلاد الكتابة والفكر والفن يعود اليوم ليقدّم للعالم درسًا جديدًا في كيف تصون الأمم ذاكرتها وتُعيد توظيفها في بناء المستقبل.
إحياء الشخصية المصرية وبناء الجمهورية الجديدة
إن هذا الحدث لا يمكن فصله عن سياق المشروع القومي الشامل الذي يقوده الرئيس عبد الفتاح السيسي لإحياء الشخصية المصرية وبناء “الجمهورية الجديدة”، فكما تمت استعادة الأمن والسيادة السياسية، يجري اليوم استعادة “السيادة الحضارية” التي تعيد تعريف دور مصر في وجدان العالم، إن بناء الطرق والموانئ والمصانع لا يقل أهمية عن بناء المتاحف والمكتبات والمعاهد الثقافية، فكلها وجوه مختلفة لنهضة واحدة تؤمن أن القوة الحقيقية للأمم تبدأ من الثقافة والمعرفة.
لقد أدرك المصريون منذ فجر التاريخ أن الحضارة لا تُبنى على الحجر وحده، بل على الإنسان الذي يعي قيمته ودوره، واليوم وهم يشاهدون هذا المتحف العملاق يفتح أبوابه للعالم، يشعرون أن روح رمسيس الثاني وتحتمس الثالث وتوت عنخ آمون وأحمس ما زالت حاضرة تُبارك أبناءها وهم يواصلون المسيرة.
اقرأ أيضا.. «حسم» حين يُستدعى الإرهاب.. مصر تواجه حربًا قذرة لتقويض استقلال قرارها
على خطى الأجداد.. مستقبل يُبنى بوعي وإيمان
وهكذا، يعود صدى الكلمات الأولى للرئيس السيسي في الحفل ليُلخّص المعنى الأعمق، “إن الحضارة المصرية ليست ماضيًا نفتخر به فحسب، بل هي مستقبل نُعيد بناؤه بوعي وإيمان”، تلك العبارة تصلح أن تكون عنوانًا لمرحلة بأكملها، مرحلة تُدرك فيها مصر أن عظمتها لا تُقاس بما ورثته فقط، بل بما تُضيفه إلى إرثها كل يوم، في النهاية يمكن القول إن افتتاح المتحف المصري الكبير هو لحظة انتصار للهوية، ومشهد وطني تتقاطع فيه السياسة بالثقافة، والاقتصاد بالوجدان، إنه رسالة موجهة إلى العالم، بأن مصر التي علّمت البشرية معنى الحضارة لا تزال قادرة على أن تُدهشها مرة أخرى، وأن النيل الذي كتب التاريخ لا يزال يفيض بالحياة والعطاء.





0 تعليق