Advertisement

بدأت الحكاية في "معركة مجيّدو" أواخر أيلول، حين انهارت الجبهة العثمانية في فلسطين. بسقوط دمشق في الأوّل من تشرين الأوّل انكشف الساحل الشامي كلّه. تحرّكت طلائع الخيّالة والمدرّعات الحليفة شمالاً عبر الطريق الساحلية ومن الداخل عبر رياق – زحلة. وحين بلغت مشارف بيروت يوم 7 تشرين الأوّل، كانت الحامية العثمانية قد أخلت المدينة على عجل، فتشكّلت في ساعات الفراغ إدارة عربية محلية لتسيير الشؤون ريثما يتّضح مصير السلطة.
في اليوم التالي، 8 تشرين الأوّل، دخلت وحدات من الفرقة السابعة الهندية (ميروت) ومعها عناصر المشاة والمدفعية لتثبيت السيطرة وتنظيم الإدارة. في البحر، أبقت القطع الفرنسية ظلّها الثقيل فوق المرفأ، إيذانًا بدور سياسي آتٍ. مشهد الدخول كان أقرب إلى تبديل وردية منه إلى سقوطٍ عسكري: أسرٌ محدود لجنود تائهين، وعودة انتظام الحياة بسرعة، لكن على إيقاع جديد.

مشاهد اليومين: كيف بدا السقوط "عن قرب"؟
الطريق إلى المدينة
مع انكشاف الساحل بعد مجيدّو وسقوط دمشق، اندفع عمودٌ حليف على الشاطئ (صور–صيدا–الجية–الدامور) بالتوازي مع تقدّمٍ من الداخل عبر رياق–زحلة. في 7 تشرين الأوّل وصلت طلائع استطلاعٍ مدرّع إلى تخوم بيروت، لتجد ثكناتٍ خالية وحاميةً عثمانية غادرت ليلًا. ساعاتٌ قصيرة تولّت فيها لجنةٌ محليّة تسيير الشؤون لمنع الفوضى، إغلاق مخازن العتاد غير المحروسة، تنظيم الدوريات في الأسواق، وضبط الميناء ريثما تتضح وجهة السلطة. وقبالة الرصيف، رست مدمّرةٌ وخمس سفن فرنسيّة، تراقب حركة الدخول والخروج وتؤمّن الغطاء البحري لدخول القوّات البرّية في اليوم التالي.
الدخول المنظَّم في 8 تشرين
مع بزوغ النهار، استعاضت المدينة عن "صوت المعركة" بخطواتٍ عسكريّة منتظمة: وحدات من الفرقة السابعة (ميروت) الهنديّة تدخل وتتموضع عند السراي والمرفأ وبوّابة طريق الشام، تعلن السيطرة وتشرع في الجرد: مخازن، مراكز بريد وتلغراف، ودوائر جمرك. جرى تجميع مئات الجنود التائهين من فلول الانسحاب في نقاطٍ متفرّقة، ونُقلوا إلى مواقع احتجاز مؤقّتة، فيما استؤنف العمل في المرفأ بوتيرةٍ حذرة لتأمين التموين، ودُفعت وحداتُ إسعافٍ ومستشفياتٌ ميدانيّة إلى المدينة لإسناد الانتقال، مع فتح نقاط علاج للمدنيين والجنود على حدّ سواء قرب المرفأ وفي محيط السراي، بالاضافة إلى دوريات خفيفة في الأحياء، رفع أعلامٍ جديدة فوق الأبنية الرسميّة، وإعادة تشغيل التلغراف بإشراف الإدارة العسكريّة المؤقّتة لإبلاغ المراكز القياديّة بأنّ بيروت باتت "مدينةً مُؤمَّنة". وبين صور والجية "سُلّم صخري" شقّته وحدات هندسيّة على عجل لتمرير العربات الثقيلة على تجاويف الجرف، فيما تكفّلت فرقٌ أخرى بإصلاح مقاطعٍ متضرّرة من الطريق والسكّة.

كيف تلقّت بيروت المشهد؟
خفّت الحركة في الأسواق صباح 8 تشرين، قبل أن تعود تدريجيًا مع انتشار الدوريات وتأكيد سلامة الإمدادات. تجّار المرفأ أعادوا فتح المخازن بعد الجرد، وأُبلغ أصحاب المراكب بقواعد الرسوّ الجديدة.
على تخوم المدينة شمالاً، سُجّل الحدث على الحجر في نهر الكلب بين نقوشٍ تمتد من العصور الفرعونية حتى استقلال لبنان: لوحٌ يؤرّخ احتلال بيروت وطرابلس في تشرين الأوّل 1918، يختصر لحظة انتقال من إمبراطورية آيلة إلى الأفول إلى نظام دولي حديث يرسم خرائط جديدة للشرق. تاريخياً، قد يغري "السقوط بلا رصاص" بالقول إنّ ما جرى تفصيلٌ لوجستي في نهاية حربٍ عالمية، لكنه في ذاكرة اللبنانيين كان لحظة تأسيس: فيها تغيّرت علاقة الجبل بالساحل، وتبدّل معنى الدولة والحدود، وتكوّنت نخبةٌ سياسية وإدارية ستطبع حياة البلد لعقود. ومن يقرأ اليوم جدالات السيادة والمرافئ والخدمات العامة، سيجد صدى تلك الـ48 ساعة الهادئة في عمق النقاش: كيف تُدار البلاد؟ وأيّ توازن بين الداخل ومحيطه؟ وأيّ موقع لبيروت على خرائط القوى؟
هكذا، تبدو 7–8 تشرين الأوّل 1918 أكثر من موعدٍ على تقويم الحرب. إنّهما يومان هادئان غيّرا قرناً كاملاً.

اليوم: بين "هدوء 1918" وارتجاج 2025
لبنان اليوم يعيش عكس تلك "الساعات" في تشرين 1918. الأزمة الاقتصادية الممتدة، حربٌ تستنزف الأطراف والحدود، فسادٌ مؤسَّس ينهش الدولة، وانسدادٌ سياسي يعطّل أي مسار إصلاحي. الإقليم من حولنا يعاد تشكيله بسرعة.. خرائط النفوذ، ممرات الطاقة والتجارة، ومعايير الأمن والاقتصاد، وكلّها تمرّ بمحاذاة الساحل نفسه الذي كان قبل قرن مسرح التحوّل.

الدرس من بيروت 1918 أنّ الفراغ لا يبقى فراغًا. من لا يضع ترتيباته يفرض الآخرون عليه ترتيباتهم. اليوم، المطلوب "إدارة انتقال" لبنانية لا تُسلّم مصير البلد لقوة الأمر الواقع، إدارة تبدأ بتثبيت قواعد الحكم (قضاء مستقل، إدارة فعّالة، ضبط منافذ الدولة)، وتستعيد دور المرفأ والمطارات والمعابر كأصول سيادية منضبطة، وتربط الاقتصاد الحقيقي بممرات المنطقة بدل الارتهان للريع والتهريب. كما أنّ بيروت يومها صارت منصة اندفاع نحو رسم ملامح الدولة، يمكن للبنان اليوم أن يحوّل نفسه منصة عبورٍ وخدماتٍ وتعليمٍ وصحّةٍ رقمية إذا ثبت الاستقرار وأُعيد بناء الثقة.. اتفاق سياسي واضح على قواعد اللعبة، مظلة أمان اجتماعي سريعة (كهرباء/اتصالات/نقل)، وتحديث تشريعي يشرعن الاستثمار المنتج ويغلق أبواب الزبائنية. وإلا سنبقى في "منطقة رمادية" تُكلِفنا كل يوم نزيفًا سكّانيًا واقتصاديًا.
بين نقش نهر الكلب الذي أرّخ سقوط 1918 وذاكرة الأزمات الراهنة سطرٌ واحد: السيادة تُكتَب بالأفعال لا بالشعارات. وحين نعيد تعريف السيادة كقدرةٍ على تقديم خدمات عامة عادلة، ضبط الحدود، وجذب الاستثمار المنتج، يصبح الخروج من العاصفة ممكنًا. عندها فقط، يمكن لبيروت أن تُبدّل الصفحة مجددًا، لا بمدافع ولا بأساطيل، بل بـ"هدوء مؤسسي" يصنع القرن المقبل.











0 تعليق