غزو أم فتح؟ «2-2»

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

رأينا فى المقال السابق مشكلة تضارب المصطلحات، ومدى أهمية ذلك، بل وخطورته، فى ميدان الكتابة التاريخية. ولاحظنا الصراع الدائم على «اختطاف» الذاكرة الجماعية للشعوب، وأن الحرب ليست فى ميدان القتال فحسب، بل الأخطر هو عملية صناعة الوعى، أو فى حقيقة الأمر تطويعه لسردية موجهة، لكى تصبح سردية سائدة.

يعتبر الصراع العربى- الإسرائيلى من أهم ميادين هذا الصراع الطويل على الذاكرة الجماعية للشعوب، ومحاولات تصدير سردية سائدة، رغم تعدد السرديات وتضاربها. رأينا الخلاف الشديد حول حرب ١٩٤٨، عام النكبة فى الذاكرة الفلسطينية، وعام الاستقلال فى الذاكرة الإسرائيلية، وكيف سادت السردية الإسرائيلية حتى فى الكتابات الغربية. وكذلك حرب يونيو ٦٧، عام النكسة فى الذاكرة المصرية، ومرارة هذا المصطلح رغم ما يحمله من تهوين من شأن الهزيمة، وحرب الأيام الستة فى الذاكرة الجماعية الإسرائيلية، وما يحمله هذا المصطلح من جنون القوة والعظمة، وكيف نجحت إسرائيل مرة أخرى فى فرض سرديتها على الكتابات الغربية.

والحق أن هذا الأمر ليس حكرًا على الصراع العربى- الإسرائيلى فحسب، بل يمتد ليشمل حتى تاريخنا الإسلامى، بل وحتى التاريخ المعاصر. وهنا عودة من جديد إلى عنوان المقال «غزو أم فتح؟»، ويعتبر هذا السؤال من الأسئلة الكلاسيكية فى التاريخ الإسلامى، بل إن تداعيات هذا السؤال وذكرياته لا تزال تمثل جدلًا كبيرًا فى الذاكرة الجماعية حتى الآن.

أتذكر، قبل الربيع العربى، نقاشًا حادًا دار فى أروقة أحد المؤتمرات التاريخية فى تركيا؛ حيث أخذ بعض الباحثين الأتراك، ومعهم أحد كبار المسئولين الأتراك، فى عتاب الباحثين العرب، حول المصطلح المستخدم فى المناهج الدراسية فى العالم العربى، حول الحكم العثمانى للمنطقة؛ إذ يُصَنَّف ذلك تحت عنوان «الغزو العثمانى للعالم العربى». وكان أشد العتاب، من الجانب التركى، للمناهج الدراسية فى سوريا ومصر آنذاك. ورحت أدلو بدلوى فى هذا العتاب، الذى تحول إلى نقاش ليس بالحاد، ولكنه اتسم بالإثارة. كان رأيى أنه من المفهوم أن يكون الأمر كذلك فى سوريا، نظرًا لأيديولوجية نظام البعث الحاكم آنذاك، وهى القومية العربية. هذا فضلًا عن ذكريات الصدام الحاد، فى أواخر الحكم العثمانى، بين القوميين العرب السوريين وجمال باشا الحاكم التركى. ولا تزال هذه الذكريات الأخيرة تمثل عائقًا أمام التقارب العربى- التركى.

أما بالنسبة لمصر، فربما ينبع ذلك من نمو القومية المصرية على أنقاض فكرة الجامعة الإسلامية، وهو ما يظهر جليًّا فى الخلاف بين مصطفى كامل ومحمد فريد من ناحية، ولطفى السيد وسلامة موسى من ناحية أخرى، هذا فضلًا عن تجربة محمد على مع الدولة العثمانية، إضافة إلى أن تأسيس المملكة المصرية عام ١٩٢٢، كان بفضل ثورة ١٩، ولكن أيضًا على أنقاض الدولة العثمانية.

وثار الجدل حول السؤال المُزمن حتى الآن حول الحكم العثمانى، أو الوجود العثمانى فى المنطقة: غزو أم فتح؟! وانحاز الجانب التركى إلى مصطلح «الفتح»، ورفضوا مصطلح «الغزو» لأنه يمثل عائقًا معنويًا أمام ذكريات «العالم الواحد» الذى كان يعيش فيه الترك والعرب وغيرهما.

هنا تداعى إلى ذهنى العديد من الأسئلة حول فخ المصطلحات، وتضارب السرديات. ورحت أسأل نفسى: لماذا تم وصم مصطلح «غزو» والترحيب بمصطلح «فتح»؟ مع أن مصطلح غزو من المصطلحات الحسنة فى التاريخ الإسلامى؛ إذ كان لقب هارون الرشيد «غازٍ وحاج»، لأنه كان يغزو عامًا ويحج عامًا. كما أن لقب «الغازى» من الألقاب المبجلة فى التاريخ التركى. ويرد علينا أصدقاؤنا الأتراك بالقول: إنكم- العرب- تستخدمون مصطلح «غزو عثمانى» لوصم الفترة العثمانية، رغم الصلات العميقة بين الترك والعرب. ويدافع الأتراك عن «الفتح العثمانى» ويرونه امتدادًا لحكم الدول الإسلامية المتعاقبة على المنطقة. ويصل النقاش إلى منطقة شديدة الحساسية، عندما يتساءل الزملاء الأتراك: هل تقولون «الفتح العربى» لمصر، أم «الغزو العربى»؟! وهنا أرد قائلًا: عامةً نقول «الفتح العربى»، لكنّ هناك تيارًا مصريًا قوميًا ذا نزعة «فرعونية» يرى أنه «غزو» مثله مثل كل الغزوات باسم الدين، أى دين.

هنا ندخل حقل ألغام «الأيديولوجيا والتاريخ» وصراع السرديات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق