قبل نحو ثمانية وخمسين عامًا، وتحديدًا في 21 أكتوبر عام 1967، سطرت القوات البحرية المصرية واحدة من أعظم الصفحات في تاريخ العسكرية الحديثة، عندما تمكنت من إغراق المدمرة الإسرائيلية "إيلات" أمام سواحل مدينة بورسعيد، لم تكن العملية مجرد انتصار بحري عابر، بل كانت تحولًا استراتيجيًا أعاد الثقة لجيش جريح بعد هزيمة يونيو، وأسس لمرحلة جديدة في فنون القتال البحري على مستوى العالم.

المدمرة "إيلات".. من سفينة بريطانية إلى أداة عدوان إسرائيلية
كانت المدمرة "إيلات" في الأصل سفينة بريطانية تعرف باسم HMS Zealous R39، خدمت في الأسطول الملكي خلال الحرب العالمية الثانية، في عام 1955، اشترتها إسرائيل ضمن مساعيها لتقوية أسطولها البحري، واعتبرتها إحدى أقوى قطعها العسكرية وأكثرها تجهيزًا، شاركت المدمرة في العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وكانت رمزًا للتفوق البحري الإسرائيلي آنذاك.
لكن بعد نكسة يونيو 1967، تحولت "إيلات" إلى أداة استفزاز سياسي وعسكري، إذ دأبت على الاقتراب من المياه الإقليمية المصرية، في استعراض مستفز للقوة، بل وتجاوزت الحدود أكثر من مرة، الأمر الذي اعتبرته القيادة المصرية تحديًا لا يمكن تجاهله.

الاستفزازات المتكررة والقرار بالرد
في 12 يوليو 1967، دخلت المدمرة "إيلات" ومعها زوارق الطوربيد الإسرائيلية إلى مدى المدفعية الساحلية لبورسعيد، وأطلقت النار على الزوارق المصرية، كانت تلك اللحظة شرارة الغضب المصري، وبدأ الإعداد لرد قوي ومدروس.
وبعد أشهر قليلة، عندما عاودت "إيلات" اختراق المياه المصرية في أكتوبر، صدر القرار الحاسم من القيادة المصرية بالاشتباك وتدمير المدمرة فور دخولها نطاق التدمير.

الضربة الخاطفة.. صواريخ مصرية تشق البحر
في مساء 21 أكتوبر 1967، تحرك لنشان صاروخيان مصريان من طراز "كومر" السوفييتي، يقودهما النقيب أحمد شاكر والملازم أول حسن حسني على اللنش (504)، والنقيب لطفي جاب الله والملازم أول ممدوح منيع على اللنش (501).
اقترب اللنشان في صمت من المدمرة الإسرائيلية التي كانت تبحر على بعد 11 ميلًا بحريًا شمال شرق بورسعيد، في لحظة خاطفة أُطلق أول صاروخ من طراز "ستيكس – Styx"، فأصاب المدمرة إصابة مباشرة في جانبها، ومع الصاروخ الثاني، اشتعلت النيران في السفينة وانفجرت من الداخل، بينما أطلقت دفعة ثانية من الصواريخ لتنهي تمامًا على المدمرة التي غرقت بالكامل في عرض البحر.
كانت تلك أول مرة في التاريخ تستخدم فيها صواريخ سطح سطح لإغراق قطعة بحرية كبيرة في معركة فعلية، لتبدأ بذلك عصرًا جديدًا في الحروب البحرية.

صدمة في إسرائيل.. واحتفال في مصر
أحدثت العملية هزة عنيفة داخل إسرائيل، إذ أسفرت عن مقتل وإصابة أكثر من 150 من طاقم المدمرة، وأصبحت أكبر خسارة بحرية في تاريخها في المقابل، تحولت مصر إلى ساحة فرح واعتزاز قومي، إذ ارتفعت الروح المعنوية للجيش والشعب معًا، بعد أشهر قليلة من الانكسار.

تأثير عالمي غير مسبوق
لم يكن تأثير العملية محليًا فقط، بل تابعتها مراكز القيادة في العالم باهتمام بالغ، بعدما أثبتت أن الزوارق الصغيرة قادرة على تدمير قطع بحرية ضخمة باستخدام الصواريخ الموجهة، أعادت هذه الواقعة رسم العقيدة البحرية العالمية، ودفعت الدول الكبرى إلى تطوير أنظمة دفاع جديدة مضادة للصواريخ.

21 أكتوبر.. عيد القوات البحرية المصرية
منذ ذلك اليوم، خلد هذا الانتصار العظيم في ذاكرة الوطن، وأُعلن 21 أكتوبر عيدًا رسميًا للقوات البحرية المصرية، تخليدًا لذكرى الرجال الذين أثبتوا أن الإرادة والعقيدة القتالية يمكن أن تصنع المعجزات.

درس خالد في التاريخ العسكري
بعد مرور 58 عامًا، ما زالت عملية إغراق "إيلات" تدرس في الأكاديميات العسكرية حول العالم كنموذج في التخطيط، الدقة، والمفاجة لقد أكدت تلك العملية أن النصر لا يقاس بحجم السلاح، بل بحجم الإيمان والذكاء في استخدامه.
ففي 21 أكتوبر 1967، لم تضيء الصواريخ البحر فحسب، بل أنارت تاريخًا جديدًا للعسكرية المصرية سيبقى خالدًا في وجدان كل مصري.
0 تعليق