لم يعد سؤال المستقبل الاقتصادي هو من سيعمل، بل من سيدفع؟ فبينما تحل الروبوتات والخوارزميات محل البشر في المصانع والمصارف والمكاتب، تتراجع مساهمة الإنسان في تمويل الدولة، ويصعد عصر جديد من الإنتاج بلا أجور، والربح بلا ضرائب.
العالم يقف اليوم على أعتاب معادلة مالية غير مسبوقة، حيث تتحول الآلة من أداة إنتاج إلى كيان اقتصادي كامل، يُنتج ويُربح ويُقصي، لكن دون أن يشارك في الأعباء العامة.. في هذه اللحظة المفصلية، يصبح السؤال الأكثر جرأة: هل سيُصبح الروبوت قريبًا دافع الضرائب القادم؟
ودخل العالم اليوم مرحلة اقتصادية غير مسبوقة، تتجاوز حدود الثورة الصناعية الرابعة لتصل إلى ما يمكن تسميته بثورة “الذكاء المنتج”، حيث لم تعد الآلات مجرد أدوات مساعدة للإنسان في العمل، بل أصبحت شريكًا كاملًا في عملية الإنتاج، بل وأحيانًا بديلًا عنه.
وفي ظل هذا التحول الكبير، يطرح سؤال جوهري نفسه بقوة على طاولات صانعي القرار: إذا كانت الروبوتات تعمل وتنتج وتدر أرباحًا على الشركات، فلماذا لا تخضع مثل البشر لمبدأ المساهمة في الأعباء العامة من خلال الضرائب؟ هذا السؤال البسيط في ظاهره يفتح الباب أمام جدل فلسفي واقتصادي عميق حول مفهوم العدالة الضريبية في عصر تتداخل فيه الحدود بين الإنسان والآلة.
لقد بُنيت النظم الضريبية التقليدية على فرضية أساسية مفادها أن العمل البشري هو مصدر الدخل، وأن الأفراد مقابل ما يكسبونه يتحملون جزءًا من تكاليف الدولة عبر الضرائب.
لكن دخول الروبوتات إلى خطوط الإنتاج أخلّ بهذه المعادلة، لأن الشركات أصبحت تقلّص عدد العاملين وتزيد إنتاجها وأرباحها في الوقت نفسه، دون أن تدفع المقابل الاجتماعي الذي كان يقدمه العمال عبر الضرائب ودورهم في تحريك عجلة الاقتصاد الاستهلاكي. وهكذا بدأ يظهر ما يمكن تسميته بـ "الفجوة الضريبية الصناعية الجديدة"، حيث تتقلص قاعدة الممولين بينما تتضخم أرباح الشركات المؤتمتة.
المفارقة أن هذه الشركات التي ترفع شعار الكفاءة والإنتاجية، تسهم من حيث لا تدري في خلق اختلال اجتماعي متزايد. فالوظائف التي تُلغى بسبب الأتمتة لا تُعوّض بوظائف جديدة بنفس الوتيرة، والدخول التي كانت تغذي الاقتصاد المحلي تتناقص، في حين تتكدس الأرباح في حسابات الشركات الكبرى. ومع تزايد الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في القطاعات المالية والإدارية والخدمية، فإن عدد البشر المطلوبين لتسيير الأنظمة الحديثة سيتقلص أكثر، ما يعني أن الدولة ستجد نفسها في المستقبل أمام قاعدة ضريبية منكمشة إلى حدّ الخطر.
وهنا تظهر الحاجة لإعادة التفكير في العلاقة بين العمل والإنتاج والدخل، بين الجهد البشري ورأس المال الآلي، وبين الربح الفردي والمصلحة العامة.
تبدو فكرة فرض ضريبة على الروبوتات للوهلة الأولى غريبة أو حتى ساخرة، لكنها في الواقع تعكس وعيًا متزايدًا لدى بعض الاقتصاديين بخطورة التفاوت المتنامي بين أرباح التكنولوجيا ومتطلبات العدالة الاجتماعية.
ومن أبرز من تبنّى هذا الطرح الملياردير الأمريكي بيل غيتس، الذي دعا إلى فرض ضريبة على الشركات التي تستبدل البشر بآلات، بحيث تدفع هذه الشركات للدولة ما يعادل الضرائب التي كان سيدفعها العمال المستبدَلون. ليست الفكرة إذن معاقبة الابتكار، بل محاولة لتوزيع مكاسب الثورة التقنية بعدالة، ولتمويل برامج إعادة التدريب أو الدخل الأساسي الشامل الذي يعوّض الناس عن فقدان وظائفهم.
لكن خصوم هذه الفكرة يرونها خطرًا على روح الابتكار، إذ يخشون أن تؤدي إلى إبطاء التحول التكنولوجي، وإلى دفع الشركات إلى نقل أنشطتها إلى دول لا تطبق مثل هذه الضرائب، بما يضرّ بالتنافسية ويخلق "جنّات روبوتية ضريبية" جديدة.
كما يشير البعض إلى صعوبة تحديد من هو الروبوت في المقام الأول.. فهل نقصد الروبوت الصناعي الميكانيكي فقط؟ أم أن البرمجيات الذكية التي تدير العمليات المالية واللوجستية والمصرفية تُعدّ بدورها كيانات آلية تستحق الضريبة؟ المشكلة أن التكنولوجيا تتطور بسرعة تفوق قدرة القانون على اللحاق بها، ولذلك يظل النقاش القانوني والفلسفي مفتوحًا دون حسم.
في كوريا الجنوبية، حاولت الحكومة معالجة هذه المعضلة بطريقة غير مباشرة، فبدلًا من فرض ضريبة صريحة على الروبوتات، قلّصت الحوافز الضريبية التي كانت تمنح للشركات عند شراء الآلات المؤتمتة، أي أنها كفّت عن مكافأة الأتمتة المفرطة دون أن تجرّمها.
أما الاتحاد الأوروبي فقد ناقش مشروع قانون لفرض ضرائب على الروبوتات عام 2017، لكنه فشل بسبب ضغوط الشركات الصناعية الكبرى، خصوصًا الألمانية، التي اعتبرت الفكرة "عبئًا بيروقراطيًا" على الاقتصاد الأوروبي. أما في الولايات المتحدة، فإن النقاش لا يزال فلسفيًا أكثر منه عمليًا، إذ تنقسم المواقف بين من يرى أن فرض ضرائب على الروبوتات سيحمي الطبقة الوسطى، ومن يرى أنه سيقضي على ريادة الأعمال التي تقوم على التكنولوجيا.
لكن خلف هذا الجدل التقني، يبرز بعد أكثر عمقًا: من يمتلك المستقبل الاقتصادي؟ هل هو العامل البشري الذي يتراجع دوره يومًا بعد يوم، أم الشركة التي تملك الآلة والبيانات والخوارزميات؟ في الماضي، كانت الثروة ترتبط بالموارد الطبيعية ورأس المال البشري، أما اليوم فهي ترتبط بالمعرفة الرقمية وسرعة الوصول إلى الأسواق. وإذا كانت هذه المعرفة مؤتمتة وتدار بالذكاء الاصطناعي، فإن أصحابها يصبحون وحدهم الممسكين بمفاتيح الإنتاج.
وهنا تكمن خطورة “الاحتكار الخوارزمي”، أي أن تتحكم قلة من الشركات في موارد العالم عبر برمجياتها وروبوتاتها دون مساهمة حقيقية في تمويل المجتمع أو الاقتصاد العام.
إن فرض ضريبة على الروبوتات لا يعني أن ندفع الآلات إلى العمل تحت سلطة الجباية، بل أن نعيد تعريف مفهوم المسؤولية الاقتصادية في عصر الأتمتة.. فعندما تُقصي شركة مليون عامل وتستبدلهم بخوارزميات تنتج أضعاف ما كانوا ينتجون، فإنها تتحمل مسؤولية اجتماعية لا يمكن تجاهلها، حتى لو كانت تلك الآلات لا تتلقى رواتب ولا تستهلك خدمات عامة. لأن نتيجة هذا التحول هي نفسها: عجز في الإيرادات الضريبية، زيادة في البطالة، اتساع فجوة الدخل، وضعف في الطلب الكلي.
ومن هنا تأتي أهمية تصميم نظام ضريبي جديد يواكب التحولات الرقمية ويمنع تركز الثروة في أيدي قلة من المبرمجين والمستثمرين.
غير أن التحدي الحقيقي يكمن في كيفية التنفيذ.. ففرض ضريبة مباشرة على الروبوت قد يبدو رمزيًا أكثر من كونه عمليًا.. ولذلك نقترح حلولًا أكثر مرونة، مثل زيادة الضرائب على أرباح الشركات المؤتمتة، أو استحداث "مساهمات رقمية" تُخصص لتمويل برامج التحول المهني للعاملين الذين فقدوا وظائفهم بسبب الأتمتة. ويمكن أن تُفرض أيضًا ضريبة على الإنتاج الكلي الناتج عن الأتمتة إذا تجاوز نسبة معينة من العمالة البشرية داخل الشركة.. بهذه الطريقة، يصبح الهدف ليس معاقبة الشركات على استخدامها للتكنولوجيا، بل دفعها إلى المشاركة في معالجة آثارها الاجتماعية.
من ناحية أخرى، لا يمكن تجاهل البعد الجيوسياسي لهذه القضية.. فالدول التي تتبنى الضريبة الروبوتية قد تجد نفسها أقل جذبًا للاستثمارات الصناعية مقارنة بالدول التي تترك الباب مفتوحًا للأتمتة دون قيود.. وقد يؤدي هذا إلى نوع جديد من "حروب الضرائب التكنولوجية"، حيث تتنافس الدول على اجتذاب شركات الذكاء الاصطناعي والروبوتات عبر إعفاءات ضريبية واسعة، مما يُضعف في النهاية قدرة الحكومات على فرض العدالة الضريبية. ومع ذلك، فإن الدول المتقدمة، إذا اتفقت على حدّ أدنى عالمي من الضرائب على الأتمتة كما فعلت مع الضرائب على الشركات الرقمية الكبرى، يمكنها الحد من هذه المنافسة الضارة.
أما في العالم العربي، فإن النقاش حول الضرائب الروبوتية لا يزال في بدايته، لأن أغلب الاقتصادات ما زالت في مرحلة التحول الرقمي الأولي. لكن مع توسع استخدام الذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية والمصرفية والإعلامية، سيظهر قريبًا نفس السؤال: كيف يمكن تحقيق التوازن بين تحديث الاقتصاد وحماية فرص العمل؟ ربما يكون أمام الدول العربية فرصة نادرة لتصميم نظم ضريبية رقمية من البداية تراعي العدالة الاجتماعية والاستدامة المالية معًا، قبل أن تتفاقم الفجوة بين رأس المال التكنولوجي والبشر.
الحقيقة أن النقاش حول الروبوتات الضريبية هو في جوهره نقاش حول فلسفة الاقتصاد نفسه.. فهل الهدف من التكنولوجيا هو تحرير الإنسان من العمل أم استبداله؟ وهل تقاس كفاءة الدولة بقدرتها على تقليص عدد الموظفين، أم بقدرتها على ضمان حياة كريمة لهم في ظل الأتمتة؟ إن الحل ليس في منع التطور، بل في أن ترافقه سياسات ذكية تعيد توزيع فوائده بعدالة.. فكما فرضت البشرية ضرائب على الثروة والميراث والدخل لحماية التوازن الاجتماعي، ربما يكون من الطبيعي أن تفرض في المستقبل ضرائب على الإنتاج الآلي الذي يراكم الثروة في جهة واحدة دون مقابل اجتماعي.
في النهاية، يبدو أن سؤال "هل يجب أن تدفع الروبوتات ضرائب؟" ليس سؤالًا تقنيًا، بل أخلاقيًا في المقام الأول.. إنه يعكس الصراع بين من يرى في الذكاء الاصطناعي وسيلة لتحسين حياة البشر، ومن يستخدمه لتعظيم أرباحه ولو على حسابهم. والجواب الواقعي أن الضرائب القادمة لن تُفرض على الحديد والبرمجيات، بل على القيمة المضافة التي تنتجها الأتمتة داخل المجتمع. أي أن الدولة لن تعامل الروبوت كمواطن، لكنها ستعامل أثره الاقتصادي كما تعامل أي مصدر دخل آخر. فالعدالة ليست في أن ندفع جميعًا الضرائب بالتساوي، بل في أن نتحمل الأعباء بما يتناسب مع ما نكسبه ونؤثر به في الآخرين.
ولعل هذا هو التحدي الأكبر في القرن الحادي والعشرين: كيف نخلق توازنًا بين الابتكار والمساواة، بين الكفاءة التقنية والعدالة الإنسانية، بين ما تنتجه الخوارزميات وما يحتاجه البشر من أمان اجتماعي واستقرار اقتصادي. فالمستقبل لن يكون صراعًا بين الإنسان والآلة كما يتخيله البعض، بل بين نظم اقتصادية تدرك مسؤولياتها وأخرى تتهرب منها خلف شاشة الذكاء الاصطناعي. وعندما تصل أول فاتورة ضريبية إلى خوادم الشركات العملاقة، سيكون العالم قد أعلن بداية عهد جديد: عصر الضرائب على الذكاء.










0 تعليق