التقى الدكتور القس متري الراهب، مؤسس ورئيس جامعة دار الكلمة في بيت لحم فلسطين، مجموعة من المشاركين في وفد كنسي نظّمه مجلس الكنائس العالمي بالتعاون مع هيئة الإغاثة الشعبية التابعة للكنيسة الدنماركية، وذلك داخل أحد مصانع خشب الزيتون في مدينة بيت لحم.
إعادة التفكير في اللاهوت
وفي حديثه خلال اللقاء، أكد الراهب أن ما تشهده غزة اليوم يمثل "جرس إنذار يدعونا إلى إعادة التفكير في اللاهوت"، منتقدًا ما وصفه بـ"العجز الأخلاقي" في اللاهوت الغربي سواء المحافظ أو الليبرالي، والذي يرى أنه ساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في تبرير المأساة الفلسطينية.
اللاهوت الغربي لم يعد يجيب عن أسئلتنا
قال الراهب إنه كان في السابق متأثرًا بالفكر اللاهوتي للدنماركي جروندتفيج، لكنه اكتشف مع مرور السنوات أن كثيرًا من اللاهوت الغربي لم يعد يقدّم إجابات حقيقية لأسئلة الوجود الفلسطينية.
وأضاف، "منذ عودتي إلى فلسطين عام 1987 مع اندلاع الانتفاضة الأولى، وبعد دراستي في ألمانيا، أدركت أن ما تعلمته في الغرب لا يجيب عن أسئلة الناس في ظل الاحتلال والمعاناة، كنت أُعدّ عظة في كنيسة المهد بينما كانت الطلقات تُسمَع في الخارج، حينها فهمت أن اللاهوت الألماني الذي درسته لم يمنحني الأدوات اللازمة لفهم واقع شعبي".
وأوضح، أن الكثير من نصوص الكتاب المقدس كُتبت في ظروف السجن والاضطهاد، مثل رسائل بولس الرسول، مشددًا على أن فهم النص المقدس يتطلب وعيًا بسياقه الإنساني: "الكتاب المقدس وُلد في فلسطين، وليس في فيتنبرغ أو روما، لذلك لا يمكننا أن نفصله عن سياقه التاريخي أو عن واقع الحياة اليومية".
انتقاد مزدوج للمحافظين والليبراليين
ورأى الراهب، أن المشكلة لا تقتصر على التيارات المحافظة في الغرب أو في إسرائيل، بل تشمل أيضًا اللاهوت الليبرالي الذي يتعامل مع القضية الفلسطينية من منظور التعقيد التاريخي لما بعد الهولوكوست.
وقال: "اللاهوتيون المحافظون يقولون إن قيام دولة إسرائيل تمهيد لمجيء المسيح، بينما يرى الليبراليون أنها ضرورة بعد المحرقة، لكن كلا الطرفين يتجنب الموقف الأخلاقي بحجة أن المسألة معقدة، أما أنا فأقول: غزة جرس إنذار يجبرنا على إعادة التفكير في اللاهوت".
وأضاف "السياسيون يصنعون العتاد (الهاردوير)، واللاهوتيون يقدّمون البرمجيات (السوفتوير) التي تبرر هذا العتاد، لذلك لا يمكن فصل الدين عن أخلاقيات العدالة والكرامة الإنسانية".
من يجرؤ أن يفعل مثل بونهوفر؟
عبّر الراهب عن استيائه من الطريقة التي يُقدَّم بها اللاهوتي الألماني ديترش بونهوفر – الذي أُعدم لمعارضته النازية – بوصفه مجرد رمز نظري، قائلًا: "بونهوفر تحوّل إلى قديس بروتستانتي نتحدث عنه بإعجاب، لكن السؤال الحقيقي هو: من يجرؤ أن يسير على خطاه اليوم؟"
وأشار إلى أنه بات يجد صعوبة في الوعظ في ظل الظروف الحالية، معتبرًا أن العبادة ليست دائمًا خطبًا عن الأمل والمحبة، بل قد تكون لحظات صمت وتأمل في واقع مؤلم يحتاج إلى صدق أكثر من الكلام.
من اللاهوت إلى الفن.. دار الكلمة تصنع التغيير
ورغم خلفيته اللاهوتية، اختار الراهب أن يكون مشروعه الأكبر هو جامعة دار الكلمة، التي تركز على الفن والثقافة والتصميم بدلًا من التعليم اللاهوتي التقليدي.
وقال: السياسة تهتم بالمجتمع، لكن الفن يصنع الوعي، وأحيانًا يكون أسهل شيء هو كتابة نظرية لاهوتية، لكن التغيير الحقيقي يحتاج إلى فنٍّ ينبع من الواقع.
وأوضح، أن الجامعة تضم اليوم غالبية من الطالبات، وثلثهم تقريبًا من المسيحيين والبقية من المسلمين، معتبرًا هذا التنوع جزءًا من رسالة الجامعة في تمكين المرأة وتعزيز الحوار والهوية الوطنية المشتركة.
وأضاف مبتسمًا: "طلبت من أحد الفنانين أن يرسم لوحة للعشاء الأخير، فانتقدها البعض لأن يسوع فيها، لكن إذا لم نقدر على تخيّل يسوع بملامح فلسطينية، فعلينا أن نعيد التفكير في معنى الإيمان والهوية".
هوية متجددة وإنسانية مشتركة
وختم الراهب حديثه مؤكدًا أن مشروعه الفني والثقافي ليس هروبًا من اللاهوت، بل تجسيد عملي له، موضحًا أن الفن في دار الكلمة يقوم على ثلاثة أسس: التعبير عن الذات، بناء الهوية الفلسطينية، التواصل الإبداعي مع العالم، العمل الفني هو في حد ذاته صلاة بلغة مختلفة وغزة ليست مجرد مأساة إنسانية، بل امتحان لضميرنا اللاهوتي والإنساني، وعلينا أن نعيد قراءة الإنجيل بعيوننا الفلسطينية، وأن نرى العالم بعيون يسوع، لا بعين القوة بل بعين الرحمة.












0 تعليق