زياد الرحبانى الذى مات على مراحل.. فى كتاب

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

يوجد فرق كبير بين الكاتب والفنان، بالطبع يوجد كُتاب كبار، استعانوا بالمراجع مثل كُتاب الروايات التاريخية التى ازدهرت بفضل الجوائز السخية التى لا تشغلها عذابات الحاضر، ومثل كتابات الذين يعتبرون حياتهم الشخصية هى المادة الخام، فيكتبونها كأنها «حكاية وطن»، ويصفون من خلالها حسابات مع أشخاص لم تكن علاقتهم بهم فى أحسن حال، وفى المقابل يوجد الفنان الذى يكتب. 

الفرق بين الاثنين، كما حدده الكاتب الكبير الفنان إبراهيم أصلان فى حوار قديم أجريته معه، هو أن الأول يكتب ما يعرف، أما الثانى فيكتب بما يعرف، أى أن خبراته مع الحياة والفن هى التى تحرضه على الكتابة، وهذا الفصيل هو الذى تترك كتابته أثرًا شعريًا لا يتخلص القارئ منه بسهولة، ولا فرق هنا بين رواية أو ديوان شعر أو كتاب نقدى أو كتابة عبر النوعية، مثل كتاب «كيفك أنت» الذى صدر مؤخرًا عن «دار بتانة» للشاعر إبراهيم عبدالفتاح، الكتاب صدر عن الموهوب الكبير زياد الرحبانى، هو ليس سيرة ذاتية، وليس تأريخًا لحياة بطله ومعاركه، وليس كتابًا صحفيًا صدر بمناسبة الرحيل، ولكنه مرثية لجيل زياد، هو «محاولة للإمساك بالهواء الذى مر بين آل الرحبانى وهواء بيروت فى نصف قرن».

«عبدالفتاح» احتشد بموهبته كشاعر وبعلاقته ببيروت التى عاش فيها وفهم شفرات لهجتها، وأيضًا بخبرته مع الموسيقى والموسيقيين، هو يرى أننا «فى رحيل زياد لا نفقد موسيقارًا ومسرحيًا فحسب، بل نخسر آخر الأصوات التى تدافع عن الحلم فى وضح النهار»، وزياد «لم يكن ابن فيروز فقط، ولكنه كان ابن القهر اللبنانى، ابن شوارع بيروت الغاضبة، ابن الحروب الأهلية والانقلابات السياسية والمقاهى التى تفكر قبل أن تقدم»، كان الوريث الحقيقى لتمرد سيد درويش، ولجنون الشيخ إمام عيسى، كان ابنًا بارًا للموسيقى، لكنه عاق للمثالية، «وإن كانت فيروز قد حملت صوت السماء، فإن زيادًا قد حمل صوت الأرض».

الكتاب لم يفصح ولم يثرثر فيما هو معروف فى مسيرة زياد وأسرته وزيجاته، هو اعتمد الإيجاز ليجرده من كل التفاصيل ليقبض على روح الفنان، المجدد، النزق، الفوضوى، المنظم، استعان بأجزاء من حوارات أجريت معه، تكمل صورته، استعان ببعض الكتابات التى علقت على رحيله، مثل ما كتبه شربل داغر كأنه استعار صوتنا «كان يكتبنا، نحن الذين بلا حزب، ولا طائفة، ولا مأوى فى هذا الشرق الحارق. نحن ضحايا الرومانسية المكسورة، والأمل المتأخر، رحل من صنع موسيقى لنا، حين لم يكن لأحد موسيقى».

نجح إبراهيم عبدالفتاح بلغة متقشفة فى إلقاء الضوء على الجوانب التى شكلت صاحب «سألونى الناس»، «دخل السياسة مثل من يدخل سينما مهجورة، جلس فى الصف الأول، وراح يصرخ على البطل، ويسخر من الحبكة، ويصفق حين يموت الشرير أخيرًا، لم يكن حزبيًا، لكنه كان يعرف جيدًا من يشبهه.. ومن يشبه الشرطة»، حين سُئل: هل أنت مع المقاومة؟، قال «أنا ضد النوم».

زياد، كما كتب المؤلف، لم يمت مؤخرًا، ولكنه مات على مراحل، مع كل قضية خذلت، مع كل حلم طمر، مع كل ساحة فرغت من المتظاهرين، مع كل كلمة حرة سحقت فى الإعلام أو فى الرقابة، مات حين ضاقت بيروت، وتقلصت مساحة الحرية، واختنق الهواء برائحة الطائفية والعفن السياسى، مات حين صار الأرز مجرد شعار، واللوز نبتة نادرة فى أرض مجرفة بالخراب، مات زياد وترك البيانو مفتوحًا على نغمة ناقصة، وضحكة ساخرة عالقة فى الهواء.

يحكى الكتاب عن أهمية زياد فى مسيرة أمه العظيمة فيروز، لأنه حررها من القداسة، وجعلها تغنى للحب والفقد والمقهى، لا للوطن فقط. فى «كيفك أنت؟» لا نسمع صوتًا من الجنة، بل صوت امرأة تخاطب غائبًا، وفى «سلم لى عليه» لا تسلم على علم أو فكرة، بل على شخص بعينه، مجهول، لكنه مر على القلب، أعادها زياد من الشرفة إلى المطبخ، من السماء إلى السرير، من قمة الجبل إلى مقهى فى شارع الحمرا.

فى ٢٠١٠ حل «زياد» ضيفًا عزيزًا على القاهرة، وفى نهاية حفلته الرائعة فى حديقة الأزهر فى ٢٠١٣ قال «اللى صار الليلة مش حفل.. صار جلسة علاج جماعى.. مشكورين يا مصريين، يا أول ناس علمونا كيف نضحك ونوجع سوا». برحيل زياد، كما كتب عبدالفتاح، نفقد شاهدًا على زمن، ومرآة كانت تفضحنا بشجاعة، وتحبنا رغم قبحنا، نفقد من كان يجعلنا نضحك وسط الحرب، ونحب وسط الهزيمة، ونسمع فيروز من جديد، لا كرمز مقدس، بل ككائن بشرى، يغنى ليسكننا، لا ليعلو فوقنا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق