بعد إخلاء سبيل «الأكيلانس» و«سلطانجي».. من يراقب المحتوى العلمي في مصر؟

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

أعاد قرار النيابة العامة إخلاء سبيل صانعي المحتوى المعروفين باسم «الأكيلانس» و«سلطانجي» بكفالة 50 ألف جنيه لكل منهما، الجدل حول من يراقب ما يقدَّم للجمهور بوصفه «محتوى علميًا» على المنصات الرقمية في مصر، وما المعايير التي يجب أن يلتزم بها من يتصدّى لتقييم المنتجات الغذائية أو الطبية أو البيئية على الهواء مباشرة أمام ملايين المتابعين.

سبب القاء القبض على «الأكيلانس» و«سلطانجي»

القضية التي بدأت بفيديو عن «تحليل مياه الشرب والمياه المعبأة» وانتهت بتحقيقات أمنية وقرارات من النيابة، فتحت بابًا أوسع لسؤال يتجاوز الشخصين إلى الظاهرة نفسها: أين تنتهي حرية «المحتوى التوعوي»، وأين تبدأ مسؤولية الدولة والجهات العلمية والرقابية عن حماية الجمهور من معلومات غير دقيقة قد تثير الذعر أو تسيء لمنتجات دون مسار علمي وقانوني واضح؟

من «فيديو تحاليل المياه» إلى تحقيقات النيابة

بحسب بيانات وزارة الداخلية وتقارير صحفية، فإن التحقيقات في قضية «الأكيلانس» و«سلطانجي» انتهت إلى أن الثنائي حصلا على عينات «غير معلومة المصدر» وزعما أنها تعود لمنتجات غذائية ومياه معبأة متداولة في الأسواق، ثم قاما بإجراء تحاليل لها في معامل خاصة «دون اتباع القواعد المعمول بها»، ونشر النتائج على منصات التواصل «بأسلوب من شأنه إثارة الرأي العام»، دون التقدم بأي شكاوى رسمية إلى الجهات المختصة مثل وزارة الصحة أو الهيئة القومية لسلامة الغذاء. 

النيابة العامة، وبعد استجوابهما وتفريغ الفيديوهات، قررت إخلاء سبيلهما بكفالة، مع استمرار فحص المحتوى المنشور والملابسات المصاحبة له. في الوقت نفسه، أصدرت جهات رسمية – بينها وزارة الصحة والهيئة القومية لسلامة الغذاء – رسائل طمأنة للجمهور بشأن سلامة المنتجات المتداولة وخضوعها لرقابة دورية. 

هذه التطورات وضعت ظاهرة «البلوجر العلمي» أو «اليوتيوبر المتخصص في التحليل» تحت المجهر: هل يكفي امتلاك معمل خاص وبعض الأدوات المعملية لتقديم محتوى يحمل عنوان «تجارب علمية»؟ ومن يراجع المنهجية والنتائج قبل أن تصل إلى ملايين المشاهدين؟

تعدد الجهات.. ولا مرجعية واحدة للمحتوى العلمي

على المستوى الرسمي، لا توجد في مصر حتى الآن جهة واحدة تُعرّف نفسها صراحة بأنها «المنظم لمحتوى العلوم والصحة والغذاء على المنصات الرقمية»، لكن هناك شبكة متداخلة من الهيئات، لكل منها جزء من الصورة:

  • الهيئة القومية لسلامة الغذاء: تختص بوضع المعايير والاشتراطات الخاصة بتداول الأغذية، والرقابة على الأغذية المستوردة والمحلية، ومنع تداول غير الصالح منها أو المغشوش، والتعاقد مع المعامل المعتمدة لإجراء الفحوص، وتنمية الوعي المجتمعي بمعايير سلامة الغذاء.
  • وزارة الصحة: مسؤولة عن ترخيص المنشآت الصحية والمعامل، والرقابة على مياه الشرب، والرد على ما يثار حول سلامة المنتجات الدوائية والغذائية ذات الصلة بالصحة العامة.
  • المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام: بموجب قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم 180 لسنة 2018، يتولى تنظيم شؤون الإعلام المسموع والمرئي والرقمي، وضبط المحتوى الإلكتروني عند مخالفته للقانون أو ميثاق الشرف المهني، بما في ذلك المحتويات التي تثير البلبلة أو تمس الأمن والصحة العامة.

قانون 180 لسنة 2018 يحمّل الوسيلة الإعلامية – بما فيها المواقع والتطبيقات المرخصة – مسؤولية ما تبثه من محتوى، لكنه لم يُصغ بعد إطارًا تفصيليًا واضحًا لمحتوى «المؤثرين» الأفراد الذين يعملون من غرف منازلهم أو من معامل خاصة، ويقدمون أنفسهم كبديل «علمي» للبيانات الرسمية.

قانونيون متخصصون في المحتوى الرقمي يشيرون إلى أن المؤثر الذي يحقق أرباحًا منتظمة من المحتوى، ويدير صفحة أو قناة ضخمة، قد يُعامل في بعض الحالات كوسيلة إعلامية من حيث المسؤولية، خصوصًا إذا كان محتواه يتضمن ادعاءات تمس الأمن الصحي أو الاقتصادي، لكن التطبيق العملي لهذا المبدأ لا يزال يتشكل من خلال القضايا التي تُعرض أمام النيابة والمحاكم. 

 

ما شروط «المحتوى العلمي» الموثوق على المنصات؟

القضية لا تتعلق فقط بمن «يراقب»، بل أيضًا بما يجب أن يتوافر في المحتوى نفسه ليُعد علميًا أو موثوقًا. خبراء في الإعلام العلمي وسلامة الغذاء يضعون مجموعة من المعايير الأساسية، من بينها:

  1. منهجية واضحة وقابلة للتحقق: أي أن يكون مصدر العينة معلومًا، موثقًا، وخاضعًا لسلسلة حفظ تضمن عدم تلوثها أو تغييرها، وأن تُجرى الفحوص داخل معامل معتمدة، وفق بروتوكولات معلنة يمكن للجهات الفنية مراجعتها.
  2. إشراف متخصص: وجود متخصص معتمد في مجال التحليل (كيمياء، ميكروبيولوجي، صحة عامة) يراجع النتائج قبل نشرها، أو يشارك في شرحها للجمهور، بدلًا من الاكتفاء بتفسير شخص واحد غير موثَّق المؤهلات.
  3. مراجعة من جهة مختصة: في الملفات الحساسة مثل الغذاء والدواء والمياه، يكون المسار الطبيعي هو مخاطبة هيئة سلامة الغذاء أو وزارة الصحة بالتقارير، قبل نشر نتائج قد تؤثر على سلوك المستهلكين وسوق الشركات.
  4. لغة مسؤولة: عرض النتائج بصياغة حذرة تعترف بحدود العينة وحجمها، ولا تعمم من تجربة واحدة أو اثنتين على كل المنتجات والعلامات التجارية، وتفرق بين «وجود مشكلة مؤكدة» و«نتيجة تحتاج لمزيد من الفحص».

بدون هذه العناصر، يتحول ما يسمى «محتوى علمي» إلى خلط بين التجربة الذاتية والاتهام المباشر، وهو ما يفتح الباب للمساءلة القانونية بتهم مثل نشر أخبار كاذبة أو إثارة البلبلة أو الإضرار بسمعة منتجات وشركات دون سند علمي مكتمل.

 

بين حق الجمهور في المعرفة وخطر البلبلة

يدافع كثيرون من مستخدمي مواقع التواصل عن دور صناع المحتوى في «كشف المستور» بشأن جودة بعض المنتجات أو الخدمات، خاصة في ظل نقص الثقة في البيانات الرسمية أو بطء استجابة الجهات الرقابية أحيانًا. حالة «الأكيلانس» و«سلطانجي» تعكس هذه المفارقة: فهما قدّما أنفسهما كمدافعين عن حق المستهلك في معرفة ما يأكله ويشربه، لكن طريقة التنفيذ ومنهجية الاختبار واللغة المستخدمة فتحت الباب لسؤال معاكس: هل الدفاع عن المستهلك يُعفي من الالتزام بالقواعد العلمية والقانونية؟

من جهة أخرى، تخشى الجهات الرسمية من أن يؤدي انتشار محتوى غير منضبط إلى هز ثقة الجمهور في منظومة الرقابة بأكملها، وإحداث أضرار اقتصادية لعلامات تجارية ومنتجات دون مسار قانوني يتيح للشركات الدفاع عن نفسها أو تصحيح المعلومات. لذلك تميل مؤسسات مثل المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام إلى تشديد الحديث عن «تقنين أوضاع المنصات الرقمية» و«ضبط المحتوى» حمايةً للمجتمع، خاصة الشباب. 

 

نحو إطار أوضح للمحتوى العلمي الرقمي

قضية «الأكيلانس» و«سلطانجي» تبدو مرشحة لأن تكون نقطة تحوّل في النقاش حول تنظيم المحتوى العلمي في مصر. فمع اتساع تأثير المؤثرين الرقميين في مجالات الغذاء والصحة والبيئة، تبدو الحاجة ملحّة إلى:

-إرشادات واضحة من الهيئات العلمية والرقابية لصناع المحتوى، تحدد ما يجوز وما لا يجوز عند إجراء تجارب أو تقييم منتجات، وكيفية التنسيق مع الجهات المختصة.

-مسار شكوى معلن وسريع يسمح لأي مواطن أو صانع محتوى جاد بإبلاغ الهيئة القومية لسلامة الغذاء أو وزارة الصحة بوقائع يشتبه فيها، مع التزام هذه الجهات بالرد خلال مدد زمنية محددة.

-حوار منظم بين المنظمين وصناع المحتوى، بدلًا من ترك العلاقة محصورة بين «ضبط أمني» من ناحية، و«محتوى عفوي» من ناحية أخرى.

إلى أن يتبلور هذا الإطار بشكل أكثر شمولًا، ستظل كل قضية جديدة – مثل قضية «تحليل المياه» – ساحات اختبار للحدود الفاصلة بين حق الجمهور في المعرفة، وواجب الدولة في حماية الصحة العامة، ومسؤولية صناع المحتوى عن التزام العلم قبل السعي وراء «الترند» ونسب المشاهدة.

 

 

 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق