غزة بين الحرب المؤجلة والمراوغات السياسية

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

اتفاق وقف إطلاق النار فى غزة، الذى أُعلن عنه مؤخرًا، صار اليوم أشبه بـ«اتفاق مع وقف التنفيذ». فالقوات الإسرائيلية ما زالت تتذرع بحجج متعددة للخرق اليومى: تأخر حماس فى تسليم جثامين قتلاها، ادعاءات إطلاق نار، أو ما يسمى «الدفاع المسبق عن النفس». ويأتى كل هذا فى ظل صمت أمريكى ملحوظ، تقرأه إسرائيل على أنه غطاء ضمنى لاستمرار تجاوزاتها، فى ممارسة سياسية مدروسة لإبقاء الشارع الفلسطينى تحت ضغط دائم.

الهدف الإسرائيلى واضح: تكرار نموذج لبنان، حيث يصبح خرق وقف النار ممارسة شبه معتادة، تُستخدم كوسيلة لعرقلة الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة ترامب فى غزة، التى تنص على انسحاب كامل للقوات الإسرائيلية من القطاع. نتنياهو، الذى أُلزم بالموافقة على اتفاق شرم الشيخ لإنهاء الحرب، يسعى لضمان مكاسب داخلية وسياسية على المدى القصير، عبر تعطيل أى تقدم حقيقى، مستغلًا غياب رد فعل دولى فورى لتأجيل الانسحاب. وفى الوقت ذاته، يُعد التحول المحتمل لحماس إلى حزب سياسى خطوة استراتيجية قد تُحرم إسرائيل من أى ذريعة قانونية أو عسكرية لاحتجاز قواتها فى غزة مستقبلًا، خاصة إذا دمجت الحركة نشاطها ضمن المنظمة التحريرية الفلسطينية مع الالتزام بالمعترك السياسى.

المبادرة المصرية لدعوة الشركاء الضامنين للاجتماع فى القاهرة تأتى ضمن استراتيجية محسوبة لإنقاذ الاتفاق من محاولات الالتفاف الإسرائيلية، وحماية المدنيين فى القطاع، مع فرض مسار سياسى ودبلوماسى واضح. الجهود المصرية تُركز على تثبيت وقف النار وضمان الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطة ترامب، والتى تشمل تشكيل قوة دولية لمراقبة تنفيذ الاتفاق، وإدارة لجنة تكنوقراط لتسيير شئون المدنيين، مع بدء انسحاب القوات الإسرائيلية من كامل الأراضى، وتهيئة بيئة لإعادة إعمار القطاع على نحو شامل ومستدام، بعيدًا عن أى مقاربة جزئية أو انتقائية قد تقوض الاستقرار.

كما أن الأوضاع فى غزة لا يمكن فهمها بمعزل عن التوازنات الإقليمية والدولية. فالدور المصرى يظل حاسمًا فى التوسط وضمان التوافق بين الأطراف، بينما تبقى واشنطن فى موقع الرقيب الذى يمكن أن يعزز أو يضعف أى خطوة على الأرض. هذا السياق المعقد يجعل المعركة السياسية فى غزة جزءًا من شبكة أوسع من الضغوط والتحركات الدولية، ويستدعى من جميع الأطراف دبلوماسية محسوبة، حيث إن أى خطوة أحادية أو متسرعة قد تؤدى إلى تصعيد جديد يعيد غزة إلى دائرة النزاع المستمرة.

نجاح هذه المرحلة مرهون بقدرة المجتمع الدولى على وضع آليات واضحة لضمان تطبيقها، توازن بين الضغوط السياسية والإجراءات العملية. فالمرحلة الثانية من خطة ترامب، إذا أُحسنت إدارتها، تمثل فرصة لإعادة بناء غزة على أسس سياسية وإنسانية، تتيح للفلسطينيين ممارسة حقوقهم وتخفف من دورة التصعيد المستمرة، مع خلق أرضية سياسية تسمح لحماس والأطراف الفلسطينية الأخرى بالمشاركة الفاعلة فى العملية السياسية، دون التخلى عن حقوقهم المشروعة

باختصار، غزة اليوم محاطة بتحديات مزدوجة: وقف النار هشّ إذا لم يُحَمَ من الخروقات اليومية، والمرحلة الثانية من الخطة الأمريكية تحتاج إلى دبلوماسية نشطة وحنكة سياسية لضمان تنفيذها بالكامل، بما يحقق الاستقرار ويضع حدًا لعقود من النزاع.

 

 

 

 

 

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق