الكلمة ليست مجرد لفظ، بل أداة تشكّل الوعي، وأحيانًا تتحوّل إلى سلاح سياسي وثقافي.
مصطلح "الثقافة السيناوية" مثال صارخ على ذلك؛ فهو يتردد اليوم بين المثقفين بحسن نية، لكنه يحمل أثرًا تاريخيًا وسياسيًا لم يُنتج داخل المجتمع المصري، بل جاء نتيجة عقود من العزلة والاحتلال.
وتكرار هذا المصطلح يكرّس خطابًا استعماريًا صاغه المحتل. وقد حان الوقت لتصحيحه، والصياغة الصحيحة هي: الثقافة في سيناء، صياغة دقيقة تعترف بخصوصية المكان دون أن تفصله عن الوطن، وتعيد صياغة الوعي الوطني بعد سنوات من الانحراف المفاهيمي.
الاحتلال يصنع الكلمة… والعزلة تصنع الوهم
لم تظهر عبارة "الثقافة السيناوية" من تلقاء المجتمع المصري، بل وُلدت من سياقات العزلة السياسية والجغرافية التي فرضها الاحتلال البريطاني على سيناء في عشرينيات القرن العشرين.
فالبريطانيون فصلوا سيناء إداريًا وجغرافيًا عن بقية مصر، فبدت وكأنها "عالم مختلف" بطقوسه وحياة سكانه الخاصة، بعيدًا عن قلب الوطن، وهو فصل ظل له أثره على كل مستويات الحياة.
لاحقًا، جاء الاحتلال الإسرائيلي واستثمر هذه العزلة، ليؤكد للعالم أن لسيناء "ثقافة خاصة"، وأن سكانها مجتمع قبلي منفصل، في محاولة لتبرير سياسات الاحتلال وخلق هوية مصطنعة للمنطقة.
وهكذا أصبح المصطلح جزءًا من خطاب غريب عن الواقع، تسلل إلى الوعي الثقافي والإعلامي دون إدراك جذوره الاستعمارية، وظل يكرّس شعورًا بالاختلاف والانفصال حتى اليوم.
التراث الثقافي في سيناء… خصوصية لا انفصال
سيناء غنية بتراثها المتنوع، الذي يعكس امتداد الثقافة المصرية عبر العصور: الشعر البدوي، الذي يعبر عن الروح الصحراوية والحياة القبلية.
الأغاني الشعبية، مثل أغاني الأعراس والاحتفالات الدينية، التي تمزج بين الطقوس البدويّة والموروث المصري التقليدي.
الحكايات الشعبية، التي تنتقل شفهيًا عبر الأجيال، وتحكي عن الشجاعة والصبر وأهمية الانتماء للأرض والوطن.
الموروثات الحرفية والفنون الشعبية، مثل النسيج اليدوي، الفخار، وصناعة الحلي التقليدية، التي تبرز مهارات المجتمع المحلي وتعكس تفاعلهم مع البيئة الصحراوية والساحلية.
وهذه الخصوصية، بأي حال من الأحوال، لا تعني الانفصال عن مصر، بل هي إثراء للثقافة الوطنية.
فعندما نقول: الثقافة في أسوان، أو الثقافة في النوبة، أو الثقافة في الإسكندرية… جميعها جزء من النسيج المصري، لا انفصال فيه.
وبالمثل، سيناء ليست "ثقافة سيناوية"، بل جزء أصيل من الثقافة المصرية، تضيف إليها دون أن تفصلها.
الفارق بين المصطلحين: جذر المشكلة
الثقافة السيناوية: توحي بهوية منفصلة عن مصر، تعيد إنتاج خطاب الاحتلال، وتخلق شعورًا ضمنيًا بالاختلاف والانفصال.
الثقافة في سيناء: تصف النشاط الثقافي في المكان ضمن سياق الهوية المصرية، تعترف بالخصوصية دون الانفصال، وتصحيحها يعيد الانتماء الطبيعي.
خطر استمرار المصطلح القديم
استمرار استخدام مصطلح "الثقافة السيناوية" يحمل آثارًا واضحة:
أولها يعيد إنتاج خطاب الاحتلال في الوعي المعاصر، حتى من دون قصد.
ثانيها يضع حاجزًا لغويًا يسبق الحواجز المعرفية ويعزز الانطباعات الخاطئة.
ثالثها يرسخ الصور النمطية ويضع سكان سيناء في خانة "آخرين" داخل الوطن.
الكلمة تصنع تصورات، وكل لفظ خاطئ أو مستعار من خطاب استعماري يسهم في إعادة إنتاج صور قديمة لم تعد واقعية ولا مقبولة.
الثقافة في سيناء… صياغة وعي وصحة وطنية
استخدام عبارة "الثقافة في سيناء" ليس مجرد تصحيح لغوي، بل معركة فكرية وطنية، لأنها:
أولا تربط الثقافة بالمكان الطبيعي ضمن مصر، وتثبت أن سيناء جزء لا يتجزأ من الوطن.
ثانيًا تحفظ خصوصية سيناء الغنية دون فصلها عن النسيج الوطني.
ثالثًا تسقط رواسب الاحتلال في الوعي، وتعيد تشكيل فهم منطقي لتاريخ المنطقة وهويتها.
رابعًا تعيد الاعتبار لسكان سيناء باعتبارهم جزءًا أصيلًا من المجتمع المصري، وليسوا تابعين لهوية مفصولة.
هذه ليست مسألة كلمات فحسب، بل مسألة وعي وانتماء وحق تاريخي وثقافي.
رصد ثقافي معاصر
اليوم، يظهر في المشهد الثقافي المصري اهتمام متزايد بسيناء:
مهرجانات الشعر الشعبي والموسيقى البدوية في العريش وشرم الشيخ، التي تجمع بين الجذور المحلية والانفتاح على الثقافة الوطنية.
الأعمال الروائية والقصة القصيرة التي تناولت حياة السكان، والاحتلال، وتسليط الضوء على المقاومة الثقافية.
المشاريع البحثية والأكاديمية التي توثق التراث المحلي، وتربطه بالهوية الوطنية، بعيدًا عن أي محاولة للانعزال أو الاستقلال الثقافي.
كل هذه المبادرات تؤكد أن سيناء ليست كيانًا منفصلًا، بل قلب نابض ضمن الثقافة المصرية، وأن تصحيح المصطلحات يواكب هذا الاهتمام ويضفي مصداقية على أي خطاب ثقافي.
في النهاية، سيناء ليست مجرد مكان جغرافي، ولا ثقافة قائمة بذاتها، بل صفحة مضيئة في كتاب الثقافة المصرية، امتداد طبيعي للهوية الوطنية، وصوت حاضر في تاريخ الوطن.
وتصحيح المصطلح ليس رفاهية لغوية، بل معركة وعي حقيقية: تحرير المكان والكلمة معًا، وإعادة سيناء إلى ما تستحقه من الاعتبار الوطني والثقافي.
الثقافة في سيناء، لا الثقافة السيناوية… كلمات تصنع وعيًا، والكلمة الصحيحة تصنع وطنًا.















0 تعليق