بعد فضائح الفساد التي تفجّرت في أوكرانيا خلال الحرب، اتجهنا إلى دراسة تجارب دولية متعددة لرصد ملامح الفساد خلال الحروب منذ الحرب العالمية الثانية وحتى الصراع الأوكراني الراهن، ومن بين هذه الدول مصر خلال حرب اكتوبر المجيدة.
فالحروب عادةً تكشف الوجهين الحقيقيين للدول: جانب الانضباط الداخلي وقدرتها على حماية جبهتها المدنية، وجانب الانفلات والفساد الذي يطلّ برأسه حين تضعف الرقابة وتزداد الضغوط.
تدفق الموارد
الحروب عادةً ما تخلق بيئة خصبة للفساد، حيث تتدفق الموارد بسرعة كبيرة، ويضعف الرقابة على الإنفاق العسكري والمدني.
ومع ذلك، هناك حالات استثنائية نجحت فيها الدول في الحفاظ على النظام والأمان الداخلي، وكان أبرزها مصر خلال حرب أكتوبر 1973، حيث لم تُسجل أي واقعة سرقة أو فساد داخلي طوال أيام الحرب، رغم الظروف الاقتصادية والضغط الهائل على المجتمع والدولة.
مصر في حرب أكتوبر 1973: جبهة داخلية صلبة
شهدت مصر في أكتوبر 1973 تعبئة شاملة لكل القطاعات، من الجيش إلى المدنيين، ولم تُسجل خلالها أي محاضر سرقة أو اختلاس.
هذا الانضباط كان نتاج تضافر عدة عوامل:
وعي شعبي وطني
شعر المواطن المصري أن الحرب ليست مهمة الجيش وحده، بل جبهة مشتركة لكل فرد في المجتمع. أي اختلال داخلي كان يُنظر إليه على أنه يضر بالهدف العسكري القومي، ما خلق نوعًا من الرقابة الاجتماعية الذاتية.
حضور الدولة والشرطة
رغم انشغال معظم الموارد بالقتال، كانت مؤسسات الدولة والشرطة حازمة، حيث تم فرض قوانين صارمة ومراقبة مستمرة لضمان عدم حدوث أي تجاوزات.
قيم مجتمعية ودينية قوية
التزام المواطنين بالقيم الوطنية والدينية أدى إلى ردع أي سلوك مخالف، خصوصًا السرقات أو الاستغلال الشخصي للموارد المخصصة للحرب.
كانت تجربة مصر نموذجًا فريدًا عالميًا، يظهر كيف يمكن للدولة والشعب التعاون لتجنب الفساد الداخلي حتى في أحلك الظروف.
أفغانستان: فساد مؤسساتي أثناء الحرب وإعادة الإعمار
منذ عام 2001 وحتى انسحاب القوات الدولية في 2021، كانت أفغانستان نموذجًا صارخًا للفساد في زمن الحرب.
تقرير SIGAR كشف عن اختلاس مليارات الدولارات من مشاريع إعادة الإعمار وعقود مزوّرة.
الفساد شمل مسؤولين حكوميين محليين وميليشيات مسلحة، ما أدى إلى ضعف سلطة الدولة وتراجع الخدمات الأساسية للمواطنين.
التدخل الدولي، بدلًا من الحد من الفساد، ساعد على تعقيد شبكة المصالح، حيث تم ضخ الموارد بسرعة دون رقابة صارمة، ما سمح لشبكات فساد محلية ودولية بالاستفادة.
تجربة أفغانستان تظهر كيف أن ضعف الرقابة والفساد المؤسسي يمكن أن يهدد الاستقرار، حتى مع وجود تدخل خارجي قوي.
العراق بعد 2003: اختلاس وإهدار الموارد
بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003، شهد العراق موجة واسعة من الفساد أثناء إعادة الإعمار:
اختلاسات كبيرة في عقود المشاريع العسكرية والمدنية.
تهريب الوقود والأدوية والمواد الغذائية من المخازن الحكومية.
استغلال الشركات المحلية والدولية للتمويل الخارجي في أعمال مشبوهة.
كشف تقرير SIGIR أن مليارات الدولارات ضاعت دون أن تصل إلى مشاريع ملموسة، وهو ما جعل العراق نموذجًا عالميًا لكيفية استغلال الحروب لإثراء النخب على حساب المواطنين.
سوريا: الحرب الأهلية كفرصة للفساد
منذ 2011، أظهرت الحرب السورية كيف يمكن للنزاع الداخلي أن يصبح وسيلة للاستفادة المالية والسياسية:
استغلال النفط والموارد الأساسية للربح الشخصي.
تحويل برامج المساعدات الإنسانية إلى مصدر دخل غير مشروع.
إعادة الإعمار أصبحت أداة لتقوية النفوذ المالي والسياسي للنخب الحاكمة.
سوريا تمثل نموذجًا صارخًا لكيفية أن الفساد يمكن أن يعمق الانقسامات الاجتماعية ويؤدي إلى تراجع الخدمات الأساسية للسكان.
جمهورية الكونغو الديمقراطية: معادن الحرب والفساد
في شرق الكونغو، أظهرت الصراعات المسلحة نموذجًا آخر من الفساد:
تهريب الذهب والكولتان والموارد المعدنية الأخرى لدعم الجماعات المسلحة.
تورط مسؤولين محليين وتجار دوليين في شبكات معقدة.
الموارد الطبيعية تحولت إلى أداة تمويل للحرب، ما أدى إلى استمرار النزاع واستغلال المدنيين.
تقارير الأمم المتحدة وحقوق الإنسان أظهرت أن الاقتصاد الحربي في الكونغو فاسد بشكل منهجي، مع تآكل مؤسسات الدولة.
ليبيا بعد 2011: فوضى وانقسام المؤسسات
بعد سقوط نظام القذافي، دخلت ليبيا مرحلة من الفوضى المؤسسية:
نهب النفط والموارد الطبيعية من قبل الميليشيات.
استغلال المساعدات الدولية وتهريب الأسلحة والمواد الأساسية.
ضعف الرقابة الحكومية أدى إلى استمرار الانقسامات السياسية والمالية.
مجلس الأمن ولجان الخبراء الأممية وصفوا الفساد المالي بأنه جزء أساسي من الصراع، حيث ساهم في استمرار النزاع وتأخير بناء مؤسسات الدولة.
أوكرانيا: نموذج حديث للفساد أثناء الحرب
الحرب الروسية-الأوكرانية أظهرت أن الفساد يمكن أن يصل إلى مستويات قيادية:
اتهامات بمبالغ ضخمة في عقود شراء معدات الجيش والمساعدات الغذائية.
سرقة الأسلحة والمعدات واستغلال المناطق المحتلة لتهريب الموارد.
رغم رفع مؤشر التصور الدولي (CPI) خلال الحرب، ظهرت فضائح ملموسة تشير إلى ضعف الرقابة على الإنفاق العسكري.
تجربة أوكرانيا تبرز أن الفساد لا يقتصر على المواطنين، بل يمكن أن يكون من داخل القيادات العليا، ما يعقد جهود الحرب ويؤثر على الثقة الداخلية.
دروس الانضباط والفساد في زمن الحرب
من خلال استعراض التجارب العالمية، يمكن ملاحظة الفرق الكبير بين الحالات:
مصر: الانضباط الشعبي والمؤسساتي منع أي انفلات داخلي حتى في أشد الحروب، وهو نموذج يُدرَّس عالميًا.
الدول الأخرى: غالبًا ما يبدأ الفساد من المؤسسات العليا ويستغل موارد الحرب لتعزيز مصالح شخصية أو جماعية، مما يزيد معاناة السكان ويضعف الدولة.
ضعف المؤسسات والرقابة والانقسامات الداخلية
الحرب لا تبرر الفساد، بل ضعف المؤسسات والرقابة والانقسامات الداخلية هي العوامل الحقيقية التي تسمح للفساد بالانتشار. تجربة مصر تثبت أن الانضباط الداخلي يمكن أن يكون عاملًا حاسمًا في حماية المجتمع والدولة أثناء النزاعات.
















0 تعليق