وقفت في مقال سابق، استعرضنا فيه أحدث كتاب طرحته المكتبات في الولايات المتحدة الأمريكية عن فضيحة رجل الأعمال المُنتحر، جيفري إبستين، بعنوان (لست فتاة أحد)، عند المفاجأة من العيار الثقيل، التي فجرها رجل الأعمال والملياردير الأمريكي، إيلون ماسك، في السادس من يونيو الماضي، أو (القنبلة الكبرى) كما وصفها بنفسه، في إطار التصعيد الحاصل مع الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، في الفترة الأخيرة، بعد أن تحولت صداقة ترامب وماسك، إلى نزاع وسجال، سياسي وشعبي، أشعل منصات التواصل الاجتماعي.. ووجّه ماسك، مسئول إدارة الكفاءة الحكومية في إدارة الرئيس ترامب، قبل ترك منصبه، مؤخرًا، اتهامًا مفاجئًا لترامب بالتورط بشكل ما في ملف الفضيحة الجنسية لرجل الأعمال جيفري إبستين، الذي أشرف على جزيرة مخصصة للأعمال المخلة بالآداب، والتي يتم فيها استغلال القصّر، ومن أبرز الأسماء التي وردت في التحقيقات ترامب، ولكن دون أن توجه له أي اتهامات.. وكتب إيلون ماسك عبر حسابه في منصة X، (حان الوقت لإسقاط القنبلة الكبرى حقًا.. دونالد ترامب موجود في ملفات إبستين).. وأضاف (هذا هو السبب الحقيقي لعدم نشرها.. يومًا سعيدًا يا دونالد ترامب.. تذكر هذه التدوينة للمستقبل، فالحقيقة ستظهر)، على حد تعبيره.
أواخر يوليو الماضي، تجدد النقاش فى الولايات المتحدة حول إبستين، ووفاته الغامضة، وذلك بعد تراجع إدارة الرئيس دونالد ترامب، عن تعهدها بالكشف عن وثائق المحكمة، والتى جاءت فى أكثر من ألف صفحة، وتشير لتورط مئات الرجال من النخبة السياسية والمالية والأكاديمية والرياضية والفنية فى الولايات المتحدة وخارجها، فى علاقات مشبوهة مع الرجل الذى كان ينتظر محاكمته بتهم الاتجار بفتيات لا تتجاوز أعمارهن أربعة عشر عامًا لممارسة الجنس مع هؤلاء الرجال.. إلا أنه فى العاشر من أغسطس 2019، تم العثور على جيفرى إبستين (ميتًا ـ منتحرًا) فى زنزانته بينما كان ينتظر المحاكمة، وعلى الرغم من كونه السجين الأكثر شهرة فى أمريكا حينذاك، فلم يتم الإفراج عن مكالمة خط الطوارئ 911، التى تم إجراؤها من السجن لاستدعاء سيارة إسعاف، كما أن كاميرات التصوير داخل الزنزانة كانت معطلة ولم تعمل فى هذا اليوم، إضافة لنوم حارسين بالسجن كانت مهمتهما مراقبة زنزانة إبستين، والمرور عليها كل نصف ساعة.. وفى غضون أسبوع من وفاته، قرر الطبيب الشرعى بأن إبستين انتحر!.. وهو ما رفضه محامو إبستين وشقيقه الوحيد مارك، الذي أكد أن هناك تسترًا، وأن المسئولين الأمريكيين يخبئون الحقيقة.. وقال مارك لصحيفة (واشنطن بوست)، إن أخاه قال له إن بإمكانه قلب انتخابات عام 2016، بسبب ما يعرفه عن كل من دونالد ترامب وهيلارى كلينتون، وقال (إذا قلت ما أعرفه عن كلا المرشحين، فسيتعين عليهما إلغاء هذه الانتخابات).
وطرح الإعلامى الأمريكى الشهير، تاكر كارلسون، تساؤلات عن الجهة التى كان يعمل لحسابها رجل الأعمال إبستين، وعن الكيفية التى حقق بها ثروته الهائلة، ونفوذه الكبير، خصوصًا أنه لم يكن سوى مدرس للرياضيات، ولم يُكمل تعليمه الجامعى، ولم يتخط دخله بضعة آلاف من الدولارات شهريًا، لا يمكن من خلالها بناء ثروة ضخمة تؤهله لامتلاك طائرات خاصة، وجزيرة خاصة فى البحر الكاريبى وبيوت داخل أرقى مناطق مدينة نيويورك.. فى الوقت ذاته، عرف الاستياء طريقه إلى الملايين، من غضب الكثير من أنصار الرئيس دونالد ترامب، المعرفين بتيارMAGA، (فلنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى)، بعد تراجع البيت الأبيض عن الإفراج عن ملفات جيفرى إبستين، وإتاحتها للموطنين الأمريكيين.. وكان ترامب قد سبق وتعهد بإتاحة هذه الملفات للأمريكيين، ليعرفوا حجم الفساد والسقوط الأخلاقى الذى ضرب رموز النخبة المالية والسياسية الأمريكية، بتورطها فى استغلال فتيات قاصرات جنسيًا.. وجاء الإعلامى اليمينى الشهير، تاكر كارلسون، كأعلى هذه الأصوات الغاضبة من تراجع ترامب عن وعده.
ووسط الحديث عن نفوذ وتغلغل اللوبى الإسرائيلى واليهودى على مراكز صنع القرار ووسائط التواصل المختلفة، يبدو أن منصات (البودكاست) تمثل الاستثناء.. كما تراعى الصحف الكبرى وشبكات الأخبار المتنوعة حساسية اتهام إسرائيل بوقوفها، هى أو لوبياتها داخل أمريكا، وراء أى من هذه القضايا الحساسة، خشية تصنيفها بالعداء للسامية أو التضييق عليها ماليًا، وتشويه صورتها والإضرار بها.. وتنتشر نظرية، أن المخابرات الإسرائيلية ـ الموساد ـ قد جندت إبستين، الأمريكى اليهودي، ليقوم بدور القواد لفتيات قاصرات قدمهن لرجال أقوياء لجعلهن عرضة للابتزاز لاحقًا.
ذهب كارلسون لاتهام إبستين المباشر بالعمالة لإسرائيل، فقال (من الواضح للغاية لأى شخص يشاهد، أن هذا الرجل ـ إبستين ـ كان له صلات مباشرة بحكومة أجنبية، ولا يسمح لأحد أن يقول إن تلك الحكومة الأجنبية هى إسرائيل، لأننا أصبحنا مرعوبين للغاية إذا تطرقنا لذلك.. لكن لا حرج فى قول ذلك).. ولكارلسون سجل حافل فى التشكيك فى السرديات الإسرائيلية التى لا يتجرأ الكثير على تحديها أو التشكيك فيها.. واستضاف كارلسون المؤرخ والمشكك فى دقة أحداث الهولوكوست، داريل كوبر، عدة مرات فى برامجه، حيث يساوى كوبر حرب إسرائيل فى قطاع غزة بالفظائع النازية التى ارتكبتها ألمانيا بحق يهود أوروبا.. ويصف كارلسون كوبر بأنه (مؤرخ أمريكا الأكثر صدقًا).. ويرفض كارلسون إدارة السياسة الخارجية الأمريكية فى الشرق الأوسط من منظور خدمة مصالح إسرائيل، وهو ما يؤمن به الكثير من المعلقين والخبراء المحايدين.. وقد حذر كارلسون من مشاركة أمريكا فى الهجوم على إيران.. وبعد الهجمات الأمريكية على منشآت إيران النووية، وفر كارلوسن منصته للرئيس الإيرانى، مسعود بزشكيان، ليتحدث من خلالها لملايين الأمريكيين.. نتيجة لذلك، فقد سببت كلمات كارلسون هزة عميقة لرؤية الجمهوريين الداعمة بشدة لإسرائيل، ولخصوصية علاقتها بالولايات المتحدة.. وأضاف كارلسون المزيد من الإثارة، بمطالبته بتجريد أى مواطن أمريكى يخدم فى جيش أجنبى، بما فى ذلك فى إسرائيل، من جنسيته الأمريكية على الفور، خصوصًا وأن عدة آلاف من الأمريكيين اليهود يخدمون فى الجيش الأمريكى.
●●●
يتابع كارلسون أكثر من ستة عشر مليون شخص على منصة X، ويشاهد ملايين برنامجه الذى يبثه على نفس المنصة.. ويحث كارلسون ترامب على (التخلى عن إسرائيل.. وتركها تخوض حروبها الخاصة بأنفسهم).. خلال عام 2021، صعد برنامج (تاكر كارلسون الليلة) على شبكة فوكس الإخبارية، ليصبح الأكثر مشاهدة بين برامج الأخبار فى تاريخ شبكات الأخبار الرئيسية، قبل أن يتم فصله من الشبكة فى أبريل 2023 دون أسباب واضحة.. وبينما يعتبر بعض المعلقين كارلسون عنصريًا شعبويًا متطرفًا، مروجًا للعديد من نظريات المؤامرة، إضافة إلى عدم احترامه النساء والمهاجرين والأقليات من غير أصحاب البشرة البيضاء، كالأفارقة الأمريكيين واللاتينيين والآسيويين، فإنه وعلى النقيض، يراه الملايين بطلًا أمريكيًا قوميًا لعدائه الصريح للعولمة، ويعدّه الجمهوريون عاملًا ضروريًا لتحقيق توازن فى إعلام يسيطر عليه تقليديًا التيار الليبرالى.. ويراه أنصار الرئيس السابق، جو بايدن، ممثلًا لهم فى معركة سياسية أهم أدواتها الإعلام.
يعتبر كارلسون أن استمرار الدعم الأمريكى لإسرائيل، والوصول لدرجة المشاركة المباشرة فى عدوانها على إيران، بمثابة خيانة لمبادئ (أمريكا أولًا)، التى أيدها العديد من الناخبين الجمهوريين، ويمثل ذلك خروجًا حادًا عن تعهد ترامب بالابتعاد عن التورط العسكرى فى الشرق الأوسط.. ولا يمثل كارلسون صوتًا شاذًا يغرد خارج أسراب السياسة الأمريكية، بل هو معبر عن شريحة يمينية عريضة، من أبرز رموزها، النائبة مارجورى تايلور جرين، والمفكر الإستراتيجى ستيف بانون، الذين يريان أن على واشنطن التركيز على مخاطر وتهديدات الصين، وأن العلاقة الخاصة بإسرائيل تضر بموقف واشنطن.. ويعكس بزوغ نجومية كارلسون تحولًا كبيرًا، وإن لم يعد مؤثرًا بعد فى دائرة صنع القرار الأمريكى، داخل أجزاء من حزب اليمين الأمريكى القومي، الذى يريد موقفًا حياديًا أمريكيًا فى الشرق الأوسط، ولو كان على حساب إسرائيل، كما يقول، محمد المنشاوي، الكاتب المتخصص في الشئون الأمريكية، من واشنطن.
ويبدو أن تكلفة علاقة المودة التي عاشها دونالد ترامب، في زمن ما، جنبًا إلى جنب مع جيفري إبستين في بالم بيتش، باتت تكلفتها اليوم باهضة، إذ تُجبر ترامب على خوض معركة ضارية، تَحمل كل يوم مفاجآت مُدوية، تُربك حسابات الرئيس الأمريكي.. ولا تزال فضيحة الاعتداءات الجنسية المتعلقة بجيفري إبستين وارتباطاتها بالنخب الأمريكية، تتفاعل يوما بعد آخر، فيما يشبه زلزالًا سياسيًا يهز المجتمع السياسي والإعلامي في واشنطن، خصوصًا وأن مركز الارتدادات ينبع من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب نفسه، الذي يزداد الضغط عليه بشكل مطرد، ليس فقط من قبل خصومه السياسيين، ولكن أيضًا من طرف قاعدته الانتخابية وخصوصًا جماعة MAGA.. ظهرت قوة ارتدادات هذه الفضيحة، في ارتباك رد فعل ترامب الذي رفع دعوى قضائية ضد صحيفة (وول ستريت جورنال)، يطالبها فيها بتعويض قدره عشرة مليارات دولار، على خلفية تقرير نشرته الصحيفة، وذكرت فيه أن ترامب كتب لإبستين عام 2003، رسالة تهنئة بمناسبة عيد ميلاده تضمنّت تعبيرات فيها إيحاءات، وتحدث فيها عن (سرّ).. غير أن ترامب نفى صحة الرسالة، واعتبر ما يحدث مجرد (حملة مطاردة سياسية).
كتبت صحيفة (بيلد) الألمانية الشعبية الواسعة الانتشار، في الرابع والعشرين من يوليو 2025، (باتت الولايات المتحدة مهووسة فعلا بالكشف عن خبايا قضة إبستين، والسبب في ذلك، هو دونالد ترامب نفسه.. فقد وعد الرئيس الأمريكي خلال حملته الانتخابية بنشر جميع الملفات المتعلقة بالقضية، بما في ذلك (قائمة الزبائن) الغامضة لإبستين، والتي يُفترض، وفقًا لرؤية جماعة MAGA، أنها تضمّ بالأساس شخصيات ديمقراطية بارزة.. لكن ترامب لم يفِ بوعده.. فهو يتهم باراك أوباما بمحاولة (انقلاب)، وينشر وثائق سرية عن اغتيال مارتن لوثر كينج، لكن كل ذلك لا يجدي نفعًا.. أمريكا تريد الحديث عن ماضي ترامب مع إبستين.. بعض التفاصيل حول ذلك معروفة منذ سنوات، (كلا الرجلين كانا صديقين مقربين، رغم أن ترامب يحاول تصوير ذلك كمعرفة سطحية ليس إلا).
تسليط الضوء على العلاقة التي كانت تربط ترامب مع إبستين، جاء بعدما ندد الرئيس الأمريكي بالتقرير الذي نشرته صحيفة (وول ستريت جورنال).. وتشير عدة وقائع، إلى أن ترامب ـ الذي كان قطب عقارات ورجل أعمال معروف ـ كان يعرف إبستين، الذي كان بدوره معروفًا كخبير في إدارة الأموال منذ التسعينيات.. وهناك صورة انتشرت للرجلين تظهرهما وهما يضحكان عام 1992، مع مشجعات اتحاد كرة القدم الأمريكية في منتجع مارالاجو الذي يملكه ترامب في فلوريدا.. وفي السنة نفسها، حل إبستين ضيفًا وحيدًا على ترامب، في مسابقة (فتاة التقويم) التي استضافها الأخير وشاركت فيها أكثر من عشرين فتاة، وفق تقرير لصحيفة (نيويورك تايمز).. كما استقل ترامب طائرة إبستين الخاصة ما لا يقل عن سبع مرات في التسعينيات، وفق نفس التقرير، وهو ما نفاه ترامب بشكل قاطع.. وعلاوة على هذه العلاقة الغامضة بين الرجلين، سبق وأن اتهمت حوالى عشرين امرأة ترامب بسوء سلوك جنسي.. وفي عام 2023، أدين بالاعتداء الجنسي على الصحفية الأمريكية، إي. جين كارول، في محاكمة مدنية.
وظهرت العلاقة الوطيدة بين ترامب وإبستين، في مقال نشرته صحيفة (نيويورك ماجازين) عام 2002، وصف فيه ترامب صديقه بأنه (رجل رائع)، واستطرد في مدحه قائلًا، (إنه شخص مرح جدًا.. يُقال إنه يحب النساء الجميلات مثلي، وكثير منهن أصغر سنًا).. غير أن الأكيد أيضًا، أن العلاقة بين الرجلين انقطعت فجأة عام 2004، حينما تنافسا على شراء عقار في فلوريدا، ظفر به ترامب في نهاية المطاف.. وعودة هذه التفاصيل الجديدة/القديمة، تسببت في ازعاج كبير لترامب، ولسردية خطابه الشعبوي أمام حتى مناصريه.. وفي هذا الصدد، كتب موقع (تاجسشاو) التابع للقناة الألمانية الأولى في السادس عشر من يوليو 2025 معلقًا، (قال ترامب إنه لا يفهم الجاذبية والاهتمام بقضية إبستين بالنسبة لمؤيديه.. وأضاف، أنه يعرف محتويات ملفها، ووصفها بأنها (قذرة لكنها مملة)، واستطرد الموقع ساخرًا (حكايات المؤامرة والوعود بالشفافية حول ما يُزعم أنها شبكات سرية في أجهزة الدولة الأمريكية، هي التي أوصلت دونالد ترامب إلى البيت الأبيض.. والمفارقة اليوم، هو أن هذا ما يهدد بالانتقام من حزبه ومنه شخصيًا).
●●●
فضيحة تبدو ككرة ثلج متدحرجة.. في آخر تطور، أفادت وسائل إعلام أمريكية، بأن وزيرة العدل الأمريكية، بام بوندي، أبلغت الرئيس، في وقت سابق من هذا العام، بأن اسمه ورد في وثائق تتعلق بجيفري إبستين.. ونقلت صحيفتا (وول ستريت جورنال) و(نيويورك تايمز) عن مصادر مطلعة تفاصيل اللقاء، حيث أُبلغ ترامب بأن الوثائق تشير إليه وإلى شخصيات بارزة أخرى.. وكان ترامب، الذي يتعرض لضغوط من أجل نشر الوثائق بعد أن تعهد بذلك خلال حملته الانتخابية، أنكر الأسبوع الماضي، أن بوندي أبلغته بورود اسمه في الملفات، لكنه أقر بتلقيه إحاطة عامة حول الموضوع.. ووفقا لصحيفة (وول ستريت جورنال)، تم إبلاغ ترامب خلال الإحاطة، بأن الوثائق تحتوي على شائعات غير مؤكدة عن عدد من الأشخاص، من بينهم هو نفسه، ممن كانت لهم علاقات سابقة بإبستين.. ووصف المسئولون الاجتماع، بأنه إحاطة روتينية تناولت عدة مواضيع.. وأشارت الصحيفة إلى أن ترامب أُبلغ أيضًا بأن وزارة العدل لا تعتزم نشر مزيد من الوثائق المتعلقة بإبستين، بسبب مخاوف من كشف معلومات حساسة تخص الضحايا.. وأيد ترامب هذا القرار.
صحيفة (برافدا) السلوفاكية، كتبت في الحادي والعشرين من يوليو الماضب، (في العصر الذهبي لمغامرات إبستين، كانت استعراضات القوة من قبل المُستغلين الذكور جاري العمل بها، حتى وإن كانت غير مقبولة.. كان الصمت هو سيد الموقف، وكان من اللائق التزام الصمت، وغالبًا ما كان يُسخر من الضحايا علنًا.. نعم، كانت الفضائح الجنسية للسياسيين أمرًا معتادًا، لكن ما نتعامل معه هنا مختلف.. نحن أمام زمرة من المنحرفين النخبويين الذين يمارسون أعمالًا تجارية مشبوهة، وقد أصبحوا سياسيين أصلًا بسبب انحرافاتهم.. ناخبو ترامب وقاعدة حركته ـ اجعلوا أمريكا عظيمة مجددًا ـ كانوا غاضبين من الجميع، وقد استفاد ترامب من ذلك الغضب.. أما الآن، فإن هذا المزاج الغاضب ينقلب ضده).
وسط عاصفة إبستين، وفي تخريجة مثيرة، اتهم دونالد ترامب، سلفه باراك أوباما بالخيانة، ودعا إلى محاكمته بسبب تقرير يفيد بأن مسئولين في إدارة الرئيس الديموقراطي الأسبق، تلاعبوا بمعلومات حول تدخل روسيا في انتخابات 2016.. وأرسلت مديرة الاستخبارات الوطنية، تولسي جابارد، إحالات جنائية إلى وزارة العدل، مرتبطة بتقرير نُشر، يؤكد أن مسئولين في إدارة أوباما كانوا جزءا من (مؤامرة خيانة).. ووصف مكتب أوباما اتهامات البيت الأبيض، بأنها (سخيفة ومحاولة ضعيفة لصرف الانتباه).. وجاء في بيان له (احترامًا لمكتب الرئاسة، فإن مكتبنا لا يعطي عادة أهمية للهراء المستمر والمعلومات المضللة التي تأتي من البيت الأبيض بالرد عليها.. ولكن هذه المزاعم مشينة بصورة كافية، بحيث يجب الرد عليها.. هذه الادعاءات الغريبة سخيفة ومحاولة ضعيفة لصرف الانتباه).
وفي هذا الصدد، كتبت صحيفة (سيدني مورنينج هيرالد) الأسترالية في الرابع والعشرين من يوليو الماضي، (يبدو أن وجود رئيس دولة أجنبي في المكتب البيضاوي، يثير ردود فعل متطرفة لدى دونالد ترامب، أمس، كان رئيس الفلبين، فرديناند ماركوس جونيور، شاهدًا على مستوى مذهل من الوقاحة: حيث اتهم الرئيس الأمريكي سلفه باراك أوباما، بالتخطيط لانقلاب وارتكاب.. يمكن تجاهل هجوم ترامب باعتباره أمرًا تافهًا، وقد أدرك أوباما، مثل الكثيرين غيره، أنها مناورة صرف انتباه.. لكن رغم ذلك، قد تثبت هذه التصرفات خطورتها.. رئيسة وكالة الاستخبارات الأمريكية، تولسي جابارد، هددت ببدء تحقيقات جنائية.. ونشر ترامب فيديو مزيف بتقنية الذكاء الاصطناعي يظهر فيه أوباما وهو يُعتقل).. يبدو أن محاولات صرف الانتباه المتزايدة واليائسة عن قضية جيفري إبستين بدأت تؤتي ثمارها.. قناة فوكس نيوز، التي تعد من أهم المنابر المدافعة عن ترامب، تناولت (قصة أوباما)، وكذلك العديد من القنوات والبودكاست المرتبطة بحركة MAGA، ومع ذلك، لا يزال عدد كبير من الجمهوريين في الكونجرس يطالبون بنشر ملفات إبستين.. (في الوقت نفسه، بالكاد يخفي ترامب أنه يحاول صرف اهتمام الجمهور من خلال هذه المناورات.. وهو يبدو مستعدًا لكل شيء، إلا بالطبع، للكشف عن الملفات)!!.
تعتبر نظرية المؤامرة، عند دونالد ترامب، من ركائز خطابه السياسي، وتقوم على الاعتقاد بأن هناك مجموعات سرية تحاول الإضرار به وبحكمه.. مثل القول، بأن وسائل الإعلام وبعض السياسيين والبيروقراطيين يعملون ضده بشكل غير عادل.. هذه الأفكار، كما يقول هشام الدريوش، جعلت الكثير من المراقبين يتساءلون، حول ما إذا كان ذلك يقوم على وقائع أم أن ذلك مجرد تخيلات.. نظريات المؤامرة جزء من الشعبوية كأسلوب سياسي يعتمد على مخاطبة (الشعب العادي) ضد (النخب) أو (المؤسسات الفاسدة).. وكثيرًا ما يستخدم القادة الشعبويون قصصًا بسيطة وواضحة، عن أعداء وهميين أو مؤامرات سرية لتقوية شعور الجماهير بالظلم وبخداع النخب.
صحيفة (نويه تسوريخر تسايتونج) السويسرية الناطقة بالألمانية، كتبت في الثالث والعشرين من يوليو الماضي، (بالنسبة لحركة MAGA، تُعد نظرية المؤامرة حول جيفري إبستين، أحد ركائزها الأساسية.. وتقول هذه النظرية إن إبستين، المتهم بارتكاب جرائم جنسية بحق قاصرين، لم ينتحر في السجن، بل تم اغتياله من قبل دائرة نفوذ سرية داخل الدولة العميقة، وذلك لمنع تسريب معلومات فاضحة تتعلق بشخصيات بارزة من النخبة، لا سيما من الحزب الديمقراطي وهوليوود.. وقد ترددت آنذاك شائعات عن قائمة زبائن سرية.. حتى ترامب نفسه، ألمح إلى أن إبستين ربما قد قُتل.. لكن الآن، تقول وزارة العدل ومكتب التحقيقات الفيدرالي فجأة، إنه لا توجد أدلة على جريمة قتل، ولا توجد قائمة زبائن) أيضًا.. لكن من وجهة نظر حركة MAGA، فإن (عدم التزام ترامب بوعده) غير مقبول، إذ تقوم هويتها بالكامل على فكرة أن الدولة العميقة ونخبة فاسدة يتسترون على أمور مروعة.. لذا فهم غاضبون بشدة.. وبالتالي لن يكون من السهل على ترامب التخلص من نظريات المؤامرة التي أطلقها بنفسه.
●●●
■■ وبعد..
فإن قضية إبستين، ليست الأولى من نوعها في حياة دونالد ترامب.. فقد سبق وأقر محاميه السابق، مايكل كوهين، في مايو 2024، أنه كذب ومارس عمليات ترهيب نيابة عن الرئيس الأمريكي السابق ـ وقتها ـ ترامب، وذلك خلال المحاكمة التي يخضع لها الأخير، بتهمة التدليس في قضية دفع مبلغ مالي لنجمة الأفلام الإباحية السابقة، ستورمي دانييلز، لشراء صمتها بشأن علاقة جنسية معه.. (كذبت ومارست عمليات ترهيب نيابة عن الرئيس الأمريكي السابق).. هذا ما اعترف به المحامي السابق لترامب، كوهين الإثنين خلال المحاكمة، التي أدلى فيها بشهادته، بعدما أدلت دانييلز بشهادتها، التي تضمّنت تفاصيل بشأن العلاقة التي تقول إنها أقامتها معه عام 2006، عندما التقته على هامش منافسة للجولف في جناح في فندقه، وهو ما ينفيه ترامب.. عندما كشفت صحيفة (وول ستريت جورنال) عن العلاقة بين ترامب ودانييلز عام 2018، قال مايكل كوهين في البداية، إنه دفع لنجمة الأفلام الإباحية بمبادرة منه من دون إبلاغ رئيسه.. وبعدما لوحِق بموجب القانون، انقلب الرجل، الذي كان يفاخر بأنه مستعد (لتلقي رصاصة من أجل دونالد ترامب)، ضد الأخير، مشيرًا إلى أنه تصرف بناء على أوامره!!.
تقول دانييلز، إنها أقامت علاقة جنسية مع ترامب، وإنها حصلت على مائة وثلاثين ألف دولار من محاميه، قبل انتخابات عام 2016، مقابل صمتها بشأن هذه العلاقة.. ونفى ترامب إقامة أي علاقة من هذا القبيل مع دانييلز، منذ خروج تلك الادعاءات إلى العلن عام 2018.. تحدثت دانييلز للمرة الأولى ـ واسمها الحقيقي ستيفاني كليفورد ـ عام 2011، عن العلاقة مع ترامب في مقابلة لمجلة In Touch الأسبوعية.. وروت أنها التقت بترامب خلال بطولة خيرية للجولف، وزعمت أنهما أقاما علاقة في غرفته داخل الفندق في منتجع (لايك تاهو)، بين كاليفورنيا ونيفادا.. وحينها نفى محامي ترامب (بشدة) هذه المزاعم.
وردًا على سؤال بشأن، ما إذا كان ترامب قد طلب منها التزام الصمت حول ما حدث، قالت دانييلز، (لم يبد قلقًا حيال ذلك.. لقد كان متعجرفًا نوعًا ما).. وفي حال كانت الادعاءات صحيحة، فهذا يعني أن ذلك حدث بعد أربعة أشهر على ولادة أصغر أبناء ترامب، بارون.. لكن المجلة لم تنشر القصة بعد تهديدات بإجراءات قانونية من محامي ترامب، مايكل كوهين، وفق ما نقله برنامج (ستون دقيقة) عن موظفين سابقين.. ثم عادت المجلة ونشرت القصة في 2018، قبل أسابيع على إفادة دانييلز للبرنامج، عن تعرضها للتهديد بعد وقت قصير على موافقتها على التحدث للمجلة في 2011.. قالت دانييلز، إن رجلًا اقترب منها ومن طفلتها الرضيعة في مرآب سيارات في لاس فيجاس، وقال لها (اتركي ترامب وشأنه)، ونظر إلى الطفلة برفقتها، وقال لها، (إنها فتاة صغيرة جميلة.. من المؤسف أن يحدث شيء لوالدتها).. ومن ثم فقد وافقت لاحقًا على الحصول على مائة وثلاثين ألف دولار (مقابل صمتها)، من المحامي كوهين، قبل شهر على انتخابات 2016، لأنها كانت قلقة على سلامة عائلتها.
وأنكر كوهين في البداية ما ورد في التقرير.. لكنه عاد وأقرّ في فبراير 2018، بأنه في الواقع دفع لدانييلز من ماله الخاص، وأكد عدم تورط ترامب أو الحملة الانتخابية في ذلك.. ولاحقًا في نفس العام، أدلى كوهين بشهادته تحت القسم، بأن ترامب وجهّه لدفع المبلغ، مقابل شراء صمت دانييلز، قبل أيام على بدء انتخابات الرئاسة الأمريكية.. وقدمّ ما قال إنه دليل على استعادة المال ـ الذي دفعه مقابل الصمت ـ من ترامب.. وأقرّ ترامب بأنه شخصيًا سدد المبلغ لكوهين، وذلك ليس أمرًا خارجًا عن القانون، لكنه أنكر العلاقة وارتكاب أي مخالفة لقوانين الحملة الانتخابية.. وسجن كوهين بعدة تهم، بعد أن وجدته المحكمة مذنبًا في خرق القوانين خلال الانتخابات الرئاسية عام 2016.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.














0 تعليق