في غزة، حيث تختلط رائحة التراب برائحة الدم، تولد الحكايات من صمت المقابر أكثر مما تولد من صخب الحياة.
هناك، في أطراف المدن المهدمة وتحت ظلال الركام، تمتد صفوف من القبور الصغيرة المتشابهة، لا تحمل أسماء، ولا تواريخ ميلاد، ولا ملامح تعرف أصحابها. فقط أرقام باردة منقوشة على ألواح إسمنتية، تشير إلى أن هنا يرقد إنسان، مجهول الهوية، لكنه كان يوما ما قلبا نابضا في بيت ما.
تسمّى هذه القبور في غزة بـ«مقابر المجهولين»، وهي ليست مجرد مكان لدفن الجثث التي يعجز ذووها عن التعرف عليها، بل مرآة تعكس عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها القطاع منذ سنوات طويلة، حربًا بعد حرب، وغارة بعد أخرى.
بعض الجثامين تصل من معابر الاحتلال ملفوفة بأكياس سوداء، تحمل بصمتها المألوفة، جثة بلا ملامح، فقدت اسمها، وربما فقدت حتى وطنها. لا أحد يعرف من أين جاءت ولا إلى أين تمضي، سوى حفاري القبور الذين صاروا يحفظون وجوه الموت أكثر مما يحفظون وجوه الأحياء.
في إحدى هذه المقابر جنوب غزة، يرقد الذين لم يعرفوا بعد، بعضهم جاء من تحت أنقاض البيوت، وبعضهم أُعيد من الاحتلال في صفقة تبادل، دون أن يعرف أحد من هو، يدفنوا بآية قصيرة من القرآن، ويتركوا قبورهم مفتوحة للأمل، لعل يوما يأتي من يتعرف عليهم.
وراء كل قبر مجهول، عائلة لا تنام، أم تطرق أبواب المستشفيات والمشارح، تبحث في الصور المنشورة على الجدران، وفي الأسماء المعلقة في لوحات المفقودين، أب ما زال يحدّث ابنه الغائب في صلواته، وأخ يراقب القوافل القادمة من المعابر لعل بين النعوش نعشا يعرفه.
الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بقتل الفلسطينيين، بل يسلبهم حتى حقهم في الهوية، عشرات الجثامين تحتجز في ثلاجات الموتى الإسرائيلية، لا تعاد إلا بشروط مذلة، أو تبقى حبيسة لسنوات طويلة، كأنها أوراق مؤجلة في ملفّ الصراع.
وبينما تعيد إسرائيل بعض الجثث في أوقات متفرقة، تسلم دون معلومات دقيقة، فلا تعرف أسماؤها إلا بعد الفحص الجيني إن توفر، أو تدفن على أنها "مجهولة الهوية".
يستقبل الهلال الأحمر الفلسطيني أحيانا جثثا محروقة أو متحللة بالكامل، لا يمكن التعرف عليها بالعين، يحاولون التقاط بصمات، أو عينات من العظام، لكن في كثير من الأحيان تدفن الجثث بلا هوية لأن الأجهزة الطبية متهالكة، والظروف الأمنية لا تسمح بالتحليل الكامل.
تتحول المقابر إلى سجلات صامتة للحرب، كل قبر يحمل حكاية ناقصة، ووجها لم يُكتمل في ذاكرة أحد، في الليل، يسمع الناس في غزة صمت هذه القبور، وكأنه أنين الأرض التي تحتضن أبناءها دون أن تعرف أسماءهم.
في بيت صغير في مخيم النصيرات، تجلس أم مكلومة، التي فقدت ابنها قبل عامين في إحدى الغارات، ما زالت تحتفظ بثيابه، بصورته على الحائط، وبالأمل الذي لا يموت. لسان حالها يقول «ربما يكون في المقبرة المجهولة، لكن قلبي يقول إنه حي. ربما يكون أسير، أو مصاب، بس مش ميت.. مش ميت".
الأمل في غزة لا يدفن حتى أمام القبور المجهولة، يرفض الناس أن يسلموا بالغياب الكامل، فربما، ذات يوم، يُعاد الاسم إلى صاحبه، وتفتح القبور على ضوء الحقيقة.
المقابر المجهولة ليست نهاية القصة، بل فصلها المعلق بين الموت والحياة، هي وجع مستمر يذكر الغزيين بأن الحرب لا تقتل الجسد فقط، بل تمحو أثره أحيانا، وتجعل من الذاكرة وحدها شاهدة على من رحلوا بلا أسماء.
ليست المقابر المجهولة قدرا عابرا في غزة، بل سياسة متجذرة مارسها الاحتلال الإسرائيلي منذ عقود.
فمنذ الانتفاضة الأولى وحتى اليوم، يحتجز الاحتلال مئات جثامين الفلسطينيين في ما يعرف بـ«مقابر الأرقام».
تدفن الجثث داخل مناطق عسكرية مغلقة، تحت شواهد معدنية مرقمة، لا يُكتب عليها سوى رقم وسنة الوفاة، كأن الهوية جريمة يجب محوها، فالاحتلال يحتفظ بالجثامين كورقة ضغط في المفاوضات، أو وسيلة للابتزاز السياسي. إنه شكل آخر من القتل، قتل الذاكرة بعد الجسد، لكن الصعوبات لا تنتهي، فمن الحصار، إلى القصف، مرورا بانقطاع الكهرباء، وضياع السجلات أحيانا، كلها عوامل تجعل مهمة حفظ الذاكرة أشبه بالحرث في الماء، ورغم ذلك، لا أحد يتوقف عن المحاولة، ففي غزة، حتى التوثيق فعل مقاومة.
في ثقافة الفلسطينيين، الاسم يعني حياة، الاسم يعني العائلة، المكان، الجذر، الحكاية، وحين يدفن الفلسطيني بلا اسم، كأنه يمحى من التاريخ، لكن في غزة، حتى الأرقام تتحول إلى وجوه، وكل قبر رقمي يحمل ملامح جماعية لوطن كامل.
في إحدى المقابر، كتب على قبر صغير «شهيد رقم 41، استشهد في العدوان، أكتوبر 2023».
تحت هذا الحجر ربما يرقد طفل كان يضحك في فناء بيته، أو شاب كان يحلم بالسفر، أو أم كانت تعد الغداء لأبنائها، أو أب كان يحلم بتأمين مستقبل أبنائه.
لا أحد يعرف، لكن الجميع يشعر أن الرقم 41 ليس رقما، بل إنسانا لم يسعفه الحظ أن يكتب اسمه على شاهد قبره
حتى في الحزن، تبقى غزة مدينة لا تعرف الاستسلام، ولكنها تزرع وردة على قبر بلا اسم، وتكتب في القلب كل ما لم يكتب على الحجر، تحيل الحداد إلى ذاكرة، والغياب إلى حكاية مفتوحة على الرجاء.
المقابر المجهولة في غزة ليست مجرد تراب يحتضن أجسادا بلا هوية، بل مرايا تعكس صورة الوطن نفسه، وطن مثخن بالجراح، لكنه لا يزال حيا رغم كل ما فقد، وطن يقاتل حتى في موته، ويحلم حتى في صمته.
تحت كل شاهد مرقم، هناك قصة عشق معلقة بين الإنسان والأرض، وفي كل أمّ تبحث عن ابنها، هناك فلسطين كاملة ترفض أن تنسى أبناءها.








0 تعليق