دبلوماسية الضرورة

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

 سألنى أصدقاء لماذا يزور الوزير اللواء حسن رشاد، رئيس جهاز المخابرات العامة المصرية، إسرائيل؟ وكانت إجابتى كالتالى: تكتسب هذه الزيارة أهمية قصوى، وتعد مؤشرًا حيويًا على طبيعة وديناميكيات العلاقة المعقدة بين البلدين، خصوصًا فى أوقات الأزمات الإقليمية الكبرى. 

وبعيدًا عن الأضواء الكاشفة للدبلوماسية العلنية، تمثل هذه اللقاءات، التى يقوم بها «دبلوماسيو الظل»، القناة الأكثر فاعلية وحساسية لإدارة ملفات الأمن القومى الاستراتيجى، وعلى رأسها قضية قطاع غزة. وتأتى الزيارة الأخيرة للوزير حسن رشاد إلى تل أبيب لتؤكد الدور المحورى الذى تلعبه القاهرة كـضامن للاستقرار ووسيط أساسى لا يمكن تجاوزه فى الأجندة الإقليمية.

والملف الفلسطينى، وتحديدًا تطورات الأوضاع فى قطاع غزة، هو المحور الأساسى والدافع الرئيسى وراء هذه الزيارة. فبعد اتفاق وقف إطلاق النار يبرز دور المخابرات المصرية كلاعب إقليمى وحيد يحظى بثقة لضمان استمرارية الاتفاق والبدء فى مراحل تثبيت وقف الحرب ومنع التصعيد. وهى مهمة معقدة للغاية، فرغم الإعلان عن الاتفاق، تظل الخروقات واردة، وتصعد التوترات الميدانية بسهولة لتقوض الجهد الدبلوماسى. وهنا يأتى دور مصر الذى يؤكد رسالة واضحة جدًا، وهى ضرورة الالتزام ببنود الاتفاق وتذليل العقبات اللوجستية والسياسية التى قد تعوق استمراره. هذا الدور المصرى يحظى بتقدير دولى، خاصة من الإدارة الأمريكية، التى ترى فى القاهرة شريكًا لا غنى عنه فى إدارة الأزمة. 

ثم يأتى الانتقال إلى مراحل لاحقة تتعلق بتبادل الأسرى والجثامين بين حماس وإسرائيل، وإدخال المساعدات الإنسانية والإغاثية بشكل كافٍ ومستدام إلى قطاع غزة. ولذلك يناقش رئيس المخابرات مع المسئولين الإسرائيليين آليات تذليل العوائق الإسرائيلية لدخول القوافل، ورفع الأنقاض، وإدخال معدات الإعمار تمهيدًا للمرحلة المقبلة. 

ومن المؤكد أن جزءًا من المباحثات ركز على المطالب المصرية بضرورة فتح معبر رفح بشكل دائم للسماح بحركة البضائع والأفراد بشكل أيسر. وكذلك تتجاوز المباحثات القضايا العاجلة حول مستقبل قطاع غزة بعد هذه الحرب الإسرائيلية الغاشمة، وطرح الرؤية المصرية المتعلقة بـإعادة الإعمار، والترتيبات الأمنية داخل القطاع. 

ومن المؤكد أنه تمت مناقشة الدور الذى يمكن أن يلعبه جهاز الشرطة الفلسطينى فى تأمين القطاع، خاصة بعد تسليم حماس الملف الأمنى، وهى كلها ملفات تتطلب تنسيقًا أمنيًا رفيع المستوى مع إسرائيل والفصائل الفلسطينية. 

وتجسد هذه الزيارة الدور الإقليمى الفاعل لمصر وتأثيره على الاستقرار فى المنطقة. كما أكدت الزيارة الترابط الوثيق بين الجهود المصرية والأمريكية، خاصة تزامن وصول رئيس المخابرات المصرية مع وجود مسئولين أمريكيين رفيعى المستوى فى إسرائيل، مثل نائب الرئيس والمبعوثين الخاصين، ما يؤكد أن مصر وإسرائيل والولايات المتحدة تعمل ضمن إطار تنسيقى مشترك لإدارة الأزمة وتنفيذ الاتفاقيات. هذا التنسيق الثلاثى يضاعف من قوة الدفع الدبلوماسى المصرى ويجعلها طرفًا لا غنى عنه فى أى حل مستقبلى.

وفى ظل اضطراب إقليمى مستمر ترسخ هذه الزيارة مكانة مصر كوسيط أكثر فاعلية وقبولًا. فالمؤسسة الأمنية المصرية، وبخاصة جهاز المخابرات، تمتلك خبرة تاريخية وشبكة علاقات عميقة، مما يمنحها القدرة على تحقيق اختراقات فى ملفات بالغة الحساسية، وهو ما تعترف به القوى الدولية.

زيارة الوزير حسن رشاد تحمل أيضًا رسائل داخلية وإقليمية أوسع، تؤكد أن أمن الحدود الجنوبية والشرقية أولوية قصوى للأمن القومى المصرى، وأن القاهرة لن تسمح بأى ترتيبات أمنية تهدد استقرار سيناء أو تفرض تهجيرًا للفلسطينيين. كما أنها تبعث برسالة إلى الداخل المصرى حول الجدية فى التعامل مع الأزمة الإنسانية فى غزة.

إن زيارة الوزير حسن رشاد إلى إسرائيل مثال حى لما يُعرف بدبلوماسية الضرورة، حيث تتجاوز الاعتبارات السياسية العامة لتلبية متطلبات الأمن القومى الملحة. إنها عملية معقدة لإدارة الأزمات، وليست مجرد لقاءات بروتوكولية. ففى خضم الأزمات المشتعلة، تظل القنوات الأمنية غير المعلنة هى الشريان الذى يغذى عملية بناء الثقة وإدارة التوقعات بين الأعداء. وبما أن الأمن فى قطاع غزة يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأمن القومى المصرى، فإن هذه الزيارة ستبقى هى «البوصلة» التى توجه الجهود الإقليمية لتثبيت وقف إطلاق النار، وتوفير المساعدات، ورسم ملامح الترتيبات الأمنية لمرحلة ما بعد الحرب. إنها شهادة على أن مصر من خلال أجهزتها الأمنية تظل حجر الزاوية فى أى معادلة أمنية أو سياسية مستدامة فى المنطقة.

أخبار ذات صلة

0 تعليق