محاكمة زوار مولد أحمد البدوى

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

كل عام، ومع أول ليلة من ليالى مولد البدوى، تقام محكمتان، واحدة فى شوارع طنطا المليئة بالبشر من كل مكان ومن كل الأعمار، وكذلك أكياس الحمص والأنوار والزينة، والمحكمة الثانية أكثر قسوة فى ساحات السوشيال ميديا، حيث يتحول الجميع إلى قضاة، وتُشهر الهواتف كسيوف، وتُصدر الأحكام الفورية على نوايا الآلاف من البشر بضغطة زر.

اللافت للنظر ليس النقد، بل هذه «البراءة» المعلنة على الملأ، موجة هائلة من التبرؤ من أفعال البسطاء، وكأن كاتبيها ملائكة للتو هبطوا من السماء السابعة، لكن دعنا نتوقف لحظة ونسأل: أين هذه الحمية الدينية، وهذا الضمير الحى، حين نسمع عن فتاوى التكفير وجرائم القتل التى تُرتكب باسم الدين؟ الصمت المريب الذى يخيّم على الكثيرين وقتها، يفضح أن براءتهم من المولد ليست سوى قناع من التقوى الزائفة، أو ربما وسيلة لتفريغ الكبت والشعور بتميز وهمى على العوام.

وحتى لا يُفهم كلامى خطأ، أنا نفسى أجد بعض المشاهد فى المولد غريبة وربما منفرة، أرفض التمسح بالأضرحة بشكل لا يليق، وأرى أن ارتداء ملابس بهلوانية لا علاقة له بالدين، وهذا ليس رأيًا شخصيًا فحسب، بل هو ما أكده الأزهر مرارًا، لكن هناك خيط رفيع بين رفض فعل مشين، وبين احتقار فاعله والحكم على قلبه.

المولد ليس معتكفًا دينيًا، بل هو تجمع شعبى يعكس الحياة كما هى بكل تناقضاتها، هو مساحة مفتوحة يتجاور فيها مجلس الذكر الهادئ مع ضجيج بائع متجول، يلتقى فيه من أتى ليُطعم الفقراء، مع الفقير الذى أتى ليأكل أو يرتزق، هو مرآة للمجتمع، لا نسخة مثالية منه، من يبحث عن درس دينى سيجده، ومن يبحث عن الفرحة الصاخبة سيجدها، كل إناء ينضح بما فيه.

وهنا نصل إلى أصل المأساة الحقيقية، نفسية الوصى على الدين، ذاك الذى ينظر إلى حشود المولد باشمئزاز، ويرى ذنوبهم الظاهرة، بينما هو غارق فى بواطن الآثام من احتقار للخلق، هو لا يدرك أن ذنبه الباطن قد يكون عند الله أعظم، أما من يتطرف ليطالب بـ«سحقهم» فى تعليق على فيسبوك، فهو ليس ناقدًا، بل هو إرهابى صغير، خطره الحقيقى فى الفكر الذى يحمله، لا فى الفعل الذى لا يجرؤ عليه.

وهنا وقفة عتاب ومحبة، عتاب لبعض رموز المؤسسة الدينية الذين نحترمهم، وعلى رأسهم معالى وزير الأوقاف الدكتور أسامة الأزهرى، وفضيلة الدكتور على جمعة، عضو هيئة كبار العلماء ومفتى الجمهورية الأسبق، فبينما يؤكدون وهم على حق على مشروعية الاحتفاء بأولياء الله الصالحين وحبهم، فإن صوتهم فى التبرؤ الواضح والحاسم من هذه الممارسات الفردية الشاذة لا يكون بنفس القوة، هذا الصمت يمنح الفرصة للمتربصين والنقاد لاستغلال هذه المشاهد كدليل لإدانة الممارسة كلها، والهجوم على فكرة زيارة الأولياء من أساسها.

والنقاش مع هؤلاء عقيم بطبيعته، تحدثه عن سيرة البدوى كعالم، فيجرك إلى حكم التوسل بالأموات، تشرح له رأى الفقهاء، فيقفز إلى مشهد التدخين، تذكره أن التدخين فى كل مكان، فيأخذك فى رحلة عشوائية بين عشرين قضية أخرى، هذا ليس حوارًا، بل هو تجسيد لعقل تشوه من فرط الكراهية، وقلب أدمن رفض كل ما لا يشبهه.

الأمر أبسط مما يبدو، الموالد جزء من الثقافة المصرية، لك الحق فى رفضها وعدم الحضور فيها، لكنها فى النهاية مناسبة شعبية لها ما لها وعليها ما عليها، قليل من التواضع، وكثير من الرحمة فى الحكم على الناس، قد يكون هو المدد الحقيقى الذى نحتاجه جميعًا.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق