المستشار عصام فريد.. من منصة القضاء إلى قبة التشريع

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في مشهد سياسي بالغ الدلالة، اختار أعضاء مجلس الشيوخ المصري المستشار عصام فريد رئيسًا للمجلس الجديد، بعد أن تقدّم منفردًا لشغل المنصب دون منافس، ليؤكد المصريون – داخل البرلمان وخارجه – أن ثقتهم في القاضي لا تتوقف عند حدود منصة العدالة، بل تمتد إلى قبة التشريع.

لم يكن هذا الاختيار حدثًا عابرًا في مسار السياسة المصرية، بل امتدادًا لما يبدو تقليد يترسخ خلال السنوات الأخيرة، حين آلت رئاسة غرفتي البرلمان (النواب والشيوخ) إلى قامات قضائية شامخة ومشهود لها بالكفاءة والنزاهة وحُسن التصرف، بدأت بالمستشار عبد الوهاب عبد الرازق رئيس المحكمة الدستورية العليا الأسبق ورئيس مجلس الشيوخ السابق، وتستمر اليوم مع المستشار حنفي جبالي في مجلس النواب، والمستشار عصام فريد في مجلس الشيوخ.

تلك الثقة التي يمنحها المصريون لقضاتهم ليست مجرد امتنان لماض مهني ناصع، بل إيمان بقدرة رجل المنصة على إدارة منصات أخرى لا تقل أهمية، تمتد من قاعات المحاكم إلى مقاعد التشريع.

فالقاضي الذي تمر بين يديه مظالم الناس، ويزن بين الحق والباطل بميزان الدستور والقانون، هو ذاته القادر على قيادة مؤسسة تشريعية توازن بين المصلحة العامة وحماية الحقوق الفردية.

ولعل اختيار المستشار عصام فريد دون منافس، وبإجماع أصوات نواب مجلس الشيوخ، يجسد قناعة داخلية لدى أعضاء الغرفة الثانية للمجلس التشريعي، بأن ميزان القاضي أصدق معيار لقيادة الحوار التشريعي وصون الدستور من داخل قبة البرلمان.

وتخرج المستشار عصام فريد في كلية الحقوق، وعمل فور تخرجه بالنيابة العامة، وتدرج في مناصبها المختلفة إلى أن وصل لدرجة محام عام، ثم انتقل إلى منصة القضاء، وترأس عددا من الدوائر الجنائية بمحاكم الاستئناف، ثم انتدب وكيلا أول لإدارة الكسب غير المشروع.

كما عمل المستشار عصام فريد رئيسا للمجموعة الجنائية ورئيسا للمكتب الفني بمحكمة استئناف القاهرة، وترأس محاكم استئناف قنا وأسيوط والقاهرة، وبرئاسته للأخيرة أصبح رئيسا لمجلس رؤساء محاكم الاستئناف، وعضوا بمجلس القضاء الأعلى.

حين يجلس القاضي على منصة القضاء، لا يحكم فقط في النزاعات، بل يتعامل مع القوانين ككائن حي يتطور مع المجتمع.. يلمس عيوبه واحتياجاته، ويدرك قبل غيره الفجوات التي تفرزها تطورات الجريمة أو تغير طبيعة العلاقات الإنسانية والاقتصادية، ومن ثم، تصبح خبرته اليومية في الفصل بين المتنازعين زادًا ثمينًا حين ينتقل إلى مقعد المشرّع.

القاضي الذي صاغ أحكامه في ضوء روح القانون، وأدرك فلسفة المشرّع في كل نص، يصبح في موقعٍ يسمح له اليوم بأن يطوّر النص ذاته ليواكب متغيرات المجتمع، ويوازن بين الردع والرحمة، وبين الصرامة والعدل.

نجاح التجربة في مجلس النواب وما لاقته من استحسان من جانب النواب وكذا عموم المواطنين، ثم امتدادها إلى مجلس الشيوخ، يكشف أن مهارة القاضي في إدارة الجلسات القضائية بما تتطلبه من تفهم ومرونة وضبط وإتقان وحزم، انعكست على إدارة الجلسات البرلمانية بروح النظام ذاته، ولكن في أجواء الحوار والديمقراطية.

فمنصة القضاء علّمت القاضي كيف يُصغي بإنصات، وكيف يُصدر قرارًا منصفا في وقته، وكيف يوازن بين الحزم والاحترام، وهي ذات المهارات التي يحتاجها رئيس البرلمان لإدارة نقاشات مفتوحة بين أطياف سياسية متعددة.

يُدرك المصريون أن العدالة ليست حكرًا على المحكمة، بل هي روح يجب أن تسري في كل مؤسسات الدولة، وفي مقدمتها المؤسسة التشريعية، وحين يجتمع على منصة البرلمان رجل تدرب على تحكيم الضمير قبل النص، وعلى تغليب المصلحة العامة فوق الضغوط، فإن البرلمان يكتسب بعدا جديدا من المصداقية والوقار.

من هنا، يصبح اختيار المستشار عصام فريد رئيسًا لمجلس الشيوخ ليس مجرد خطوة تنظيمية في دورة برلمانية جديدة، بل تجديد لثقة وطن في رجاله الذين صاغوا العدالة بأيديهم، وانتقلوا بها من قاعة المحكمة إلى قبة البرلمان، حاملين ذات الرسالة وذات القسم: أن يُنصفوا الناس، وأن يُحكموا الضمير قبل القرار.

لا تبدو التجربة المصرية في إسناد قيادة السلطة التشريعية إلى رموز قضائية محض مصادفة، بل هي تعبير عن وعي جمعي يرى في القاضي نموذجا للدولة الرشيدة: رصين في كلمته، دقيق في حكمه، ومخلص في أداء واجبه.

وهو ما يجعل اختيار المستشار عصام فريد استمرارًا طبيعيا لنهجٍ اختبره المصريون، ووجدوا فيه اطمئنانًا بأن صوت القانون لا يزال الأعلى، سواء نُطق به من منصة القضاء أو من قبة البرلمان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق