في العقود الأخيرة، تحولت النيوليبرالية من مجرد اتجاه اقتصادي إلى عقيدة سياسية واجتماعية تفرض منطق السوق على كل جوانب الحياة. ولأن هذا النموذج أصبح مُهيمنًا على السياسات العامة في الغرب، ثم في العالم العربي، فقد صار من الضروري إعادة قراءة تأثيره على مجتمعاتنا - خصوصًا في مصر - وتقديم بديل فكري قادر على استعادة التوازن بين الكفاءة والعدالة، بين حرية السوق وكرامة الإنسان.
وفي مواجهة هذا المد، تقف الليبرالية الاجتماعية - التي أنتمي إليها -كفلسفة واقعية وإنسانية، تعيد للإنسان مركزه في المعادلة، وتحمي المجتمع من اختلالات السوق، دون أن تعادي الحرية أو النمو.
تقوم النيوليبرالية على أربع ركائز أساسية:
1. تقليص دور الدولة في الخدمات والإنتاج.
2. الخصخصة الواسعة للمؤسسات العامة.
3. تحرير الأسعار وتركها لآليات السوق.
4. الرهان على الاستثمار والقطاع الخاص باعتبارهما محركي النمو.
في ظاهر الأمر، تبدو هذه الأفكار جذابة؛ فالسوق كفء، والمنافسة منتجة، والبيروقراطية الحكومية بطيئة.
لكن التجربة أثبتت أن تحويل السوق إلى عقيدة يخلق مجتمعًا لا يملك فيه الضعفاء سوى الخضوع أو السقوط خارج المعادلة.
طبّقت مصر، على مراحل، سياسات تدريجيه نحو النيوليبرالية منذ منتصف التسعينيات، ثم بوتيرة أكبر بعد ذلك. ورغم وجود مكاسب في البنية التحتية والاستثمارات، إلا أن التكلفة الاجتماعية لهذه السياسات كانت واضحة.
مثلًا، قبل ثلاثة عقود، لم يكن يخطر ببال أحد أن تصبح الجامعة "مشروعًا استثماريًا”.
لكن اليوم:
• انتشرت الجامعات الخاصة والدولية بكثافة، وارتفعت المصروفات إلى مستويات لا تحتملها أغلب الأسر، مع تراجع دور الجامعة العامة كمحرك للعدالة الاجتماعية، بل إن الحكومة أنشأت جامعات سمتها أهلية وهي في الحقيقة جامعات حكومية خاصة مملوكة للدولة، تخبرنا هذه الظاهرة أننا انتقلنا من "تعليم من أجل الإنسان" إلى "تعليم لمن يستطيع الدفع".
كذلك فعلي الرغم من مشروعات التأمين الشامل، التي تُعد خطوة إيجابية، إلا أن الواقع يكشف أن جزءًا كبيرًا من المصريين يعتمد على القطاع الخاص عالي التكلفة، وأن نفقات العلاج تشكل عبئًا ماليًا خانقًا على الأسر، وأن الصحة تحوّلت تدريجيًا إلى مجال للربحية على حساب الحق الإنساني حتي في مستشفيات الحكومة.
إن تحرير الأسعار كآلية اقتصادية قد يكون ضروريًا، لكنه في غياب حماية اجتماعية يؤدي إلى:
• زيادات غير معقولة في الغذاء والسكن،
• تآكل القدرة الشرائية،
• تراجع نوعية الحياة،
• وتفاقم مشاعر الظلم بين المواطنين.
أي أنه بغياب توازن بين السوق والدولة، يصبح المواطن البسيط هو الحلقة الأضعف في سلسلة لا ترحم.
النيوليبرالية لا توفر للمواطن سوى خيارين:
إما أن ينجح وحده.. أو يسقط وحده.
وفي مجتمع مثل مصر، حيث:
• نسبة كبيرة من السكان شباب،
• والبطالة مرتفعة،
• والقدرة الشرائية متراجعة،
• والبنية التعليمية والصحية بحاجة إلى دعم حقيقي،
فإن ترك المواطن في مواجهة السوق وحده يشبه تركه في بحر هائج بلا سفينة ولا سترة نجاة.
الليبرالية الاجتماعية:
على النقيض، تأتي الليبرالية الاجتماعية التي أنتمي إليها لتعيد ترتيب الأولويات.. إنها لا تلغي السوق ولا تعادي القطاع الخاص، لكنها تقول بوضوح: السوق وسيلة للرفاه، لا غاية؛ والدولة حامية للعدالة، لا منافسة للسوق؛ والإنسان هو مركز كل السياسات.
الليبرالية الاجتماعية تحمل رؤية تقوم على:
1. العدالة الاجتماعية كجزء من الحرية، لا نقيضًا لها.
2. تكافؤ الفرص بوصفه جوهر العقد الاجتماعي.
3. دور نشط للدولة في التعليم والصحة والإسكان والمواصلات العامة.
4. دعم الطبقة الوسطى باعتبارها ركيزة الاستقرار.
5. السعي نحو السوق الحر، بآلياته لكن في اطار تنظيمي وقانوني وأخلاقي.
في هذه الفلسفة، لا يُترك المواطن فريسة لتقلبات السوق، ولا تتحول الدولة إلى تاجر ينافس مواطنيه، بل إلى شريك ينظم ويحمي ويمنح الأمل.
إن وراء كل منظومة اقتصادية فلسفة للإنسان.
الإنسان في النيوليبرالية فرد بدون شبكة أمان حيث تتعامل النيوليبرالية مع الإنسان كما يراه هوبز والداروينيون الجدد، كائن تنافسي، أناني، يسعى لتعظيم المنفعة الشخصية.
وبهذا تصبح الحياة الاقتصادية معركة، والسوق قانونها الأول:
الربح للأقوى.
أما الليبرالية الاجتماعية فترى الإنسان كما رآه “جون رولز” و”روسو” وكما أراه أنا:
كائنًا أخلاقيًا يستحق تكافؤ الفرص قبل المنافسة.
وتقول إن الحرية ليست غياب القيود فحسب، بل امتلاك القدرة على الاختيار.
والعدالة ليست إحسانًا من الأغنياء، بل حق للمواطن.
ماذا يعني ذلك لمصر؟
يعني أننا بحاجة إلى إعادة ضبط اتجاه السفينة، ليس لمعاداة السوق، بل لجعل السوق أداة لا سيدًا، ولجعل الدولة شريكًا لا عبئًا ولا منافسًا.
رؤيتي نحو ليبرالية اجتماعية لمصر قد تشمل
• إعادة الاعتبار للجامعة الحكومية كقاطرة للعدالة.
• تطوير التعليم الفني والمهني بمستويات عالمية.
• جعل التأمين الصحي شاملًا وفعالًا بالفعل، لا على الورق.
• توسيع شبكات الحماية الاجتماعية المرتبطة بالعمل والإنتاج.
• ضبط الأسواق بقوانين تمنع الاحتكار وتحمي المستهلك.
• تيسير انشاء الصناعات الوطنية لخلق وظائف مستقرة.
• اعتبار السكن والصحة والتعليم حقوقًا لا سلعًا.
هذه الخطوات ليست أحلامًا، بل ضرورة لبناء مجتمع يحترم الإنسان.
أيُّ مستقبل نختار؟
الصراع بين النيوليبرالية والليبرالية الاجتماعية ليس صراعًا بين مدرستين اقتصاديتين فقط، بل سؤال وجودي يواجه مصر والعالم:
هل نريد اقتصادًا كبيرًا.. أم مجتمعًا كبيرًا؟
هل نريد أرقامًا أعلى.. أم حياة أعدل؟
هل نريد سوقًا بلا قيود.. أم إنسانًا بلا خوف؟
إن المستقبل لن يُبنى بالخصخصة وحدها، ولا بالدعم وحده، بل بالتوازن:
سوق فعّال، دولة عادلة، ومواطن قادر.
وكلما عاد الإنسان إلى قلب السياسات، عاد المجتمع إلى قلب الحياة.
إلا أن علينا أن نعترف أن عبقرية الحكم في مصر قد أفرزت نظرية جديدة وهي مزج بين النيوليبرالية والليبرالية الاجتماعية سأسميها "الليبرالية المصرية أو النيومصرالية"
"النيومصرالية " هي الادعاء بتوجه ايديولوجي سياسي والعمل ضده، وعكسه.
فجانب من الليبرالية الاجتماعية هو حياد الدولة في السوق وعدم منافسة القطاع الخاص في المجال الذي تُرك له وهو ما تُعلنه الحكومة المصرية لكنها تتعامل بعكسة في الواقع. وجزء هام من الليبرالية الاجتماعية هو تطبيق القانون المنظم في تعاقدات الدولة مع القطاع الخاص وهو ما يتم في كثير من الأحوال عدم احترامه فالدولة تفرض نفسها وتستولي علي نسب من المشروعات وتنتهك الاتفاقات بلا رادع احيانا.
أي أننا نمارس ليبرالية اجتماعية شكلًا ونمارس اسوأ أنواع النيوليبرالية موضوعًا، حيث فيها الدولة متحكمة في السوق كقطاع خاص متخفي ومستثمر أساسي باسماء رمزية لمؤسسات مملوكة لأجهزة الدولة..
علينا أن نكون أكثر وضوحًا.








0 تعليق