غزة ومعركة قرارت مجلس الأمن

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

بين زخم المعارك وتعقيد الحسابات الدولية، تجد غزة نفسها في قلب صراع استراتيجي يتجاوز حدود الميدان حتى وصل إلى مجلس الأمن، حيث تنافست رؤيتان لصناعة الاستقرار: مشروع أمريكي يريد إعادة تشكيل القطاع عبر قوة دولية واسعة النفوذ، ومشروع روسي يعارض الوصاية ويطالب بترتيبات تحفظ الدور الفلسطيني وتعيد التوازن داخل بنية القرار الدولي، في لحظة تعاد فيها صياغة مستقبل غزة، يتحول الاختلاف بين المشروعين إلى اختبار حقيقي لإرادة المجتمع الدولي، وأياً كان تصويت مجلس الأمن، فإن السؤال هو: هل سيفرض الاستقرار بالقوة، أم سيبنى على شرعية أصحاب الأرض؟.

فحوى المشروع الأمريكى

المشروع الأمريكي استند إلى فكرة أن غزة بحاجة إلى إدارة انتقالية تشرف عليها قوة استقرار دولية تمتلك تفويضا أمنيا وإغاثيا وتنظيميا.. هذه القوة، بحسب الرؤية الأمريكية، ستكون مسؤولة عن السيطرة على الأمن، إدارة المساعدات، تأمين الطرق والممرات، وحماية عمليات إعادة الإعمار، الفلسفة الأساسية للمشروع تقوم على أن البيئة الحاكمة في غزة يجب إعادة هندستها بالكامل، وأن المجتمع الدولي عبر واشنطن وحلفائها هو القادر على فرض هذه الهندسة الجديدة.

 لذلك فالمشروع يمنح الخارج دورا محوريا في صياغة النظام الإداري والسياسي والاقتصادي للقطاع، مع استبعاد أي سيطرة فصائلية أو ترتيبات داخلية تتعارض مع أهداف الاستقرار الدولي، وقد تم تقديم هذا الطرح بوصفه حلا عاجلا يسمح بإنهاء الفوضى وتسريع إنقاذ الوضع الإنساني، لكنه في الوقت ذاته يخفي توسيعا لنفوذ واشنطن في تحديد مستقبل غزة.

فلسفة رؤية موسكو

في المقابل، كان المشروع الروسي على مقاربة مغايرة تماما، مقاربة ترفض فكرة وضع غزة تحت وصاية خارجية، حيث تعتبر موسكو أن أي قوة دولية بمهام أمنية واسعة ستتحول فعليا إلى إدارة أجنبية فوق القرار الفلسطيني، وهو ما يعيد إنتاج نماذج قديمة من الانتداب الدولي بأشكال جديدة، لذلك دفع المشروع الروسي نحو ترتيبات تشرك الأطراف الفلسطينية والعربية في إدارة الأمن والخدمات وإعادة الإعمار، مع التأكيد على أن الاستقرار لا يفرض من الخارج بل يبنى من توافق محلي وتفاهمات إقليمية تحترم السيادة الفلسطينية، كما أن موسكو ترى أن واشنطن تسعى لاستغلال حالة الطوارئ الإنسانية لفرض ترتيبات تجعلها اللاعب الرئيسي في الملف الفلسطيني وتهمش دور القوى الأخرى، ولذلك تقدم روسيا نفسها كطرف يوازن النفوذ الأمريكي ويعيد صياغة ميزان القوى في مجلس الأمن.

هذا التباين بين المشروعين لا يتعلق فقط بآليات إدارة غزة، بل بطبيعة النظام الدولي نفسه، الولايات المتحدة تقدم نموذجًا للاستقرار يقوم على القوة والإدارة الخارجية وفرض ترتيبات جاهزة، بينما تقدم روسيا نموذجا يعطي الأولوية للسيادة والشرعية المحلية حتى لو كان الطريق أكثر صعوبة وتعقيدا، ومع ذلك، فإن كلا المشروعين يعكسان محاولة من كل قوة لإعادة تثبيت نفوذها في الشرق الأوسط عبر بوابة غزة، حيث تتحول المعاناة الإنسانية إلى ملف سياسي قابل للاستثمار.

وسط هذه المعادلة، تلعب مصر دورًا محورياً لا يمكن تجاوزه، فهي الطرف الوحيد الذي يمتلك القدرة على التعامل المباشر مع الواقع الأمني والإنساني في غزة، وهي الدولة التي تتحمل تبعات أي خلل على حدودها وأمنها القومي، ولذلك تعمل القاهرة على إنتاج صيغة متوازنة تتجنب تحويل غزة إلى ساحة نفوذ خارجي، وفي الوقت ذاته تدعم حلاً يضمن حماية المدنيين وإعادة الإعمار وعودة الاستقرار بعيدا عن أي ترتيبات تمس الهوية والسيادة الفلسطينية، فالدور المصري هنا ليس تفضيل مشروع على آخر، بل الحفاظ على معادلة تحفظ الأمن وتمنع فرض حلول خارجية قد تخلق أزمات جديدة.

وحدة الصف الفلسطينى

في النهاية، الصراع بين المشروعين الأمريكي والروسي ليس خلافا تقنيا حول شكل القوة الدولية، بل هو مواجهة بين رؤيتين: واحدة ترى أن الاستقرار يصنع عبر هيمنة القوى الكبرى، وأخرى تؤمن بأن الاستقرار لا يتحقق إلا إذا شارك فيه أصحاب الأرض، وبين هاتين الرؤيتين، تبقى غزة هي النقطة التي سيقاس عليها شكل النظام الدولي القادم ومدى قدرة العالم على تحقيق توازن بين الأمن والشرعية والسيادة.

وفِي ظل هذا التشابك الدولي والإقليمي، تبقى الحقيقة الأكثر إلحاحًا أن أي مشروع للاستقرار، أمريكيا كان أو روسيا، سيظل ناقصا ومعلقا ما لم تحسم مسألة المصالحة الفلسطينية، فغياب وحدة الموقف الفلسطيني هو الثغرة التي تتسلل منها كل الأزمات والضغوط، وهو العامل الذي يسمح للقوى الدولية بإعادة تشكيل مستقبل غزة بمعزل عن أصحاب القضية أنفسهم، لن يتحقق استقرار حقيقي، ولن تبنى دولة فلسطينية مستقلة، ولن تنجح أي ترتيبات أمنية أو سياسية، ما لم تتوحد المؤسسات والقيادة والرؤية داخل البيت الفلسطيني، فالمصالحة ليست خيارا سياسيا رفاهيا، بل هى شرط وجودي لاستعادة القرار الوطني، وإعادة بناء غزة، وفرض أي حل يحترم السيادة الفلسطينية، ويمنع تحويل القطاع إلى ساحة نفوذ خارجي يتصارع عليها الآخرون بينما يغيب صوت صاحب الحق.

وفي المحصلة، يبدو شبه مؤكد أن الدول العربية اتجهت إلى القبول بالمشروع الأمريكي لاعتبارات إنسانية ضاغطة تتعلق بإنقاذ المدنيين وفتح الممرات وضمان الحد الأدنى من الاستقرار الميداني، فالحاجة الإنسانية الهائلة تجعل هذا القبول عمليا وضروريا، خاصة في ظل الانهيار الكامل للبنية الأساسية في غزة، ومع ذلك، سيظل المشروع الأمريكي رغم فائدته الإغاثية خطرا مستمرا إذا لم يربط برؤية سياسية واضحة، لأنه قد يتحول إلى إدارة انتقالية طويلة تبقي القطاع تحت وصاية دولية وتبعده عن مسار السيادة، والجوهر الحقيقي لأي حل لن يكون في قوة دولية أو ترتيبات أمنية، بل في بلورة شكل واضح للدولة الفلسطينية المستقبلية، دولة ذات مؤسسات، وحدود، وشرعية سياسية، وقادرة على إدارة شؤونها بعيدا عن النفوذ الخارجي.

الاستقرار يا سادة لا يتحقق بوجود قوة دولية مؤقتة، بل يتحقق عندما تصبح الدولة الفلسطينية هي مركز الحوار وقلب أي تسوية، وهي الضامن الوحيد لأمن غزة والمنطقة بأكملها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق