غزة .. المأساة التي تحولت إلى رصيد بنكي بعد هدر التبرعات

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

سنوات طوال وفلسطين تتحول في وعي العالم العربي والإسلامي من قضية تحرر سياسي إلى بنك مفتوح باسم الجهاد.. أكتب هذا بمناسبة البيان الذي أصدرته حركة حماس قبل أيام  وتحذر فيه المتبرعين من التعامل مع أسماء إسلامنجية محددة، وهو ما يثير الشك والريبة في مصير التبرعات ويطعن بشكل مباشر في ذمة من جاء اسمهم في البيان، وبالرغم من ذلك مازالت القضية الفلسطينية تمثل شحنة أخلاقية جاهزة للاستخدام وقت الحاجة، وإلى مادة قابلة للتوظيف الحزبي والدعوي والإعلامي، لكن ما حدث خلال الأيام الماضية ليس مجرد حلقة جديدة في هذا المسلسل الطويل بل كان صدمة صريحة مكتوبة بوضوح هذه المرة من داخل المعسكر نفسه، ذلك أن بيان الحركة حدد جهات حمساوية أو محسوبة عليها تستغل اسم غزة لتجميع الأموال.

البيان لم يأت مبطنًا ولا مليئًا بالإيحاءات كما جرت عادة الحركة، بل جاء صريحًا ومحددًا بأسماء ومسميات وهياكل، وردت فيه الإشارة إلى شخصيات بعينها متهمة بجمع تبرعات دون رقابة أو دون تسليمها لأصحاب الحق، بل وتمت الإشارة إلى اختفاء مبالغ ضخمة لا يعرف أين ذهبت، وهو ما يمثل مفاجأة، ليس لأنه يكشف الفساد فهذا متوقع في أي كيان مغلق بلا رقابة، ولكن لأنه لأول مرة جاء من الجهة التي كانت لسنوات تتهم الآخرين بالتشكيك وتنعت كل من يثير الأسئلة بـ"المنافقين" أو "المتآمرين". المفاجأة أن حماس نفسها تقول بالحروف إن هناك من يتكسبون من دماء غزة وإن بعض حملات التبرعات تستغل الحرب وتحولها إلى تجارة مربحة.

شخصيات محسوبة على الإخوان

وحسب ما ذكره الخبير ماهر فرغلي الذي سلط الضوء على هذه الأزمة بتدفق معلوماتي، فقد أشار إلى أن البيان جاء امتدادًا لما كشفه ناشط حمساوي اسمه خالد حسن والذي بدأ حملته بانتقاد جمعية تدعى "وقف الأمة"، وهي جمعية تشرف عليها شخصيات محسوبة على جماعة الإخوان المسلمين مثل: سعيد أبو العبد، يزيد نوفل، فؤاد الزبيدي، عبد الله سمير، خلدون حجازي، أحمد العمري، وزيد العيص. هذه الجمعية وفقًا لما تم كشفه، جمعت ما يقرب من نصف مليار دولار في حملة واحدة بحجة دعم غزة، نصف مليار في حملة واحدة بينما سكان غزة لا يجدون خبزا ولا ماء ولا دواء.

ولم تقف الحكاية عند هذا الحد، فبمجرد انتشار الاتهامات خرج المدافعون وعلى رأسهم محمد المختار الشنقيطي الذي حاول التشكيك في القصة والطعن في من سرب المعلومات، لكن حماس وبعد ضغط داخل التنظيم وخارجه اضطرت إلى التدخل وإصدار بيان رسمي يعترف بوجود تجاوزات خطيرة ويطلب عدم التعامل مع هذه الجهات ويعلن أنه لا علاقة للحركة بها.

لكن السؤال الذي يفرض نفسه من أين جاءت هذه الجهات بشرعية جمع التبرعات؟ على أي أساس تعمل؟ ومن منحها التفويض؟ وكيف وصلت إلى قلوب الناس قبل جيوبهم؟ وكيف استطاعت أن تحشد إعلاميين ومشايخ وقنوات فضائية وشعارات دينية وحملات علاقات عامة ضخمة؟.

حملات مستمرة وأدوات دعاية متعددة

الصدمة الأكبر أن جمعية "وقف الأمة"، والتي تنشط من تركيا منذ عام 2013، استطاعت إطلاق أكثر من 2000 حملة تبرعات في السنوات الأخيرة، وأنها في حملتها الأخيرة التي حذرت حماس منها، استخدمت كل أدوات الدعاية المتاحة من إعلانات تلفزيونية، ومؤتمرات في إسطنبول، ومشاركة إعلاميين من شبكة الجزيرة، وحضور دعاة ووجوه مؤثرة على منصات التواصل، مؤكدة أن التبرع "فرض عين" وأن من لا يتبرع يفوته أجر "الفتح القادم".

هنا يصبح السؤال أخلاقيًا قبل أن يكون سياسيًا أو إداريًا: كيف تتحول المأساة الإنسانية إلى منتج تسويقي؟ كيف يصبح الطفل الذي فقد عائلته صورة خلفية لحملة إعلانية؟ كيف يتحول الألم الجمعي إلى رأسمال ديني قابل للاستثمار؟.

منذ سنوات وهناك شبهات تحيط بثروات بعض قيادات حماس المقيمين في الخارج، نسمع أرقامًا ثم يتم وصفنا بالكراهية إن طرحنا السؤال، لكن اليوم، السؤال لم يعد خيانة ولا تطاولاً ولا مؤامرة، اليوم السؤال يأتي من داخل الحركة نفسها أين ذهبت الأموال؟.

هل ذهبت للحرب؟ إن كانت الإجابة نعم، فلماذا يعيش قادة الحركة في إسطنبول والدوحة حياة مزدهرة بينما سكان غزة يقتاتون الفتات؟ وإن لم تذهب للحرب فأين ذهبت؟.

تبرعات متكررة.. وواقع يتدهور

المال في النهاية ليس مجرد مبالغ بل هو ثقة، والثقة إن سقطت سقط كل شيء معها، والمتبرع اليوم يريد إجابة واضحة هل التبرع يصل أم يتحول إلى حسابات سرية؟ هل يبني مدرسة أم يبني فيلا؟ هل يطعم طفلا أم يكدس ثروة؟ هل يمول مقاومة أم يمول نفوذا سياسيا لجماعة دولية لها مصالحها وأجنداتها؟.

الأخطر من ذلك أن غياب الرقابة لم يكن حادثا عرضيا بل كان جزءا من بنية الإدارة في الحركة، فلا توجد آليات شفافة ولا تقارير مالية ولا لجان مستقلة ولا قضاء قادر على المحاسبة، المال يدخل ثم يختفي، تبرعات وحملات متكررة تحت الشعارات ذاتها، بينما الواقع يتدهور.

حماس في غزة تخوض حربا، هذا مفهوم، لكن حين تتحول القضية إلى سوق وتتداخل فيها السياسة بالدين بالدعاية بالإعلام بالتمويل العابر للحدود، يصبح الفساد احتمالا طبيعيًا.

والآن ومع البيان الأخير، يبدو أن الرواية بدأت تتشقق وأن الصمت لم يعد ممكنا، لكن خروج حماس بهذا البيان الآن لا يكفي، المطلوب هو إعلان آلية شفافة واضحة علنية تشرف عليها جهة مستقلة لا ترتبط بأي فصيل سياسي وتكون مسؤولة عن إدارة الدعم المالي والإنساني لغزة.

ليس المطلوب أن نوقف التبرعات بل أن نجعلها تستحق اسمها، فالشهداء لا يحتاجون إلى حملات، والناجون لا يحتاجون إلى تجارة، وغزة لا تحتاج صانعي ثروات بل تحتاج مؤسسات تخضع للمحاسبة والمراجعة.

هذا البيان ليس نهاية فضيحة، بل بداية مرحلة جديدة يجب أن يكون عنوانها الشفافية قبل الحماس، الإنسان قبل الشعارات، غزة قبل التنظيم، والحق قبل الدعاية، وعند هذه النقطة يصبح سؤال المستقبل واضحا هل ستبقى غزة تحت وصاية جماعات ترى فيها رأسمالا سياسيا وإعلاميا؟ أم سيولد نظام حوكمة نزيه يعيد القضية إلى مكانها الطبيعي كقضية شعب يريد الحياة لا شعارا يريد التمويل؟

الإجابة لن تُكتب في بيان، بل ستُكتب في المسار الذي سيختاره المتبرعون حين يقررون أخيرا ألا يدفعوا في الظلام بعد الآن.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق