كانت المدينة التي لجأت إليها بعيدةً بما يكفي لتنسى، وصاخبةً بما يكفي لتشعر أنها وحيدة وسط الزحام؛ شوارعها تمتد كذاكرةٍ لا تعرف النسيان، أضواؤها تشبه النبض، تومض ثم تخفت، كأنها تختبر صدق الحياة في داخلها.
كانت تمشي كثيرًا بلا وجهة، تسمع وقع خطواتها في الليل وكأنه حوارٌ طويلٌ بينها وبين نفسها، لم تعد تركض نحو شيء، بل تهرب من كل شيء، في البداية، كانت الوحدة كصحراء باردةٍ لا ظلّ فيها.كانت تصحو على جدرانٍ صامتةٍ لا تجيب، وتنام على أسئلةٍ لا تنتهي.
كانت تشعر أن الغربة لا تسكن في المدن فقط، بل في القلب الذي لم يعد يجد من يفهمه، لكن بمرور الوقت، بدأت تكتشف أن هذا الفراغ لا يعاقبها، بل يطهّرها، أن العزلة ليست سجنًا، بل بوابةً سرية نحو السلام.
وذات صباحٍ، وبينما تسير في أحد أحياء أوروبا القديمة، لاحت أمامها كنيسة القلب المقدس العريقة ذات التاريخ العظيم، لم تشعر سوي بقدميها تقودها إلي هناك دخلتها بحثًا عن سكينةٍ تعرف أن الله يوزّعها على محبيه أينما كانوا؛ أشعلت شمعةً صغيرة، رفعت عينيها نحو ضوءٍ يتسلل من زجاجٍ ملوَّن، وقالت في سرّها: «يا رب، اجعل هذا الضوء يصل إلى قلبي».
لم تكن تصلي كما اعتادت، بل كما احتاجت ببساطة القلب حين يفرغ من كل الزيف، ومنذ ذلك اليوم، صار لكل مدينةٍ تزورها بيتٌ من بيوت الله تعرفه، كانت كل سجدةٍ تبني فيها بيتًا من النور داخلها، وكل دعاءٍ يُطفئ وجعًا قديمًا كانت تظنه لن ينتهي.
ففي القاهرة تزور مساجد آل البيت، تجلس عند مقام السيدة زينب، الأقرب إلي قلبها، تهمس بحكايتها وتبكي طويلًا، وتخرج بقلبِ أخف، ثم إلى السيدة نفيسة، تسألها الثبات، وإلى الإمام الحسين، تبحث في نوره عن سلامٍ لا يُطفأ، ثم إلى سيدي أحمد البدوي في طنطا، تحمل في قلبها شكرًا لا ينتهي؛ وهكذا تمر على كل بابٍ يذكّرها أن الله لم يخذلها أبدًا.
هناك، في صمت المساجد، وجدت ما لم تجده في ضجيج المدن، تعلمت أن السكون ليس خواءً، بل امتلاء، وأن الدعاء لغة النجاة، وأن القرب من الله ليس ملاذ الضعفاء، بل قوةُ من عرف الحقيقة بعد التيه، لم تعد الوحدة تخيفها، لأن روحها امتلأت بحضورٍ أعمق من كل غياب.
تزور المساجد كما تزور الكنائس، تدخل بروح المحبّ لا السائل، وتخرج بقلبٍ مجبور، تجلس طويلًا في الصمت، تُنصت إلى دقات قلبها وهي تتناغم مع تراتيل المصلين، تشعل الشموع لا لتذكّر وجعها، بل لتضيء طريقها إلى نفسها.
كانت تشعر أن الله يكلّمها عبر التفاصيل، في نسمةٍ تهبّ على وجهها، في طفلٍ يبتسم لها في الطريق، في طائرٍ يحلّق فوقها كأنه يقول «ما زلتِ تحت السماء ذاتها»، وبينما كانت تتنقّل بين المدن الأوروبية، كانت تزداد قربًا من ذاتها، من روحها، من خالقها.
في كل مرة كانت تذهبت إليهم بروح المحبّ العاشق الزاهد، لا السائل المنكسر، كانت تشعر في حضرتهم أن الأرواح العظيمة لا تموت، وأن الطريق إلى الله له وجوه كثيرة، لكن نهايته واحدة، الطمأنينة، في كل ركعةٍ، كانت تسجد أكثر لربّها وتقلّ رغبتها في كل ما سواه.
في كل دعاءٍ، كانت تخرج من نفسها القديمة وتدخل في وعيٍ جديد، تعلمت أن الله لا يخذل من أتاه بقلبٍ منكسرٍ ويدين فارغتين، لم تعد الوحدة تُخيفها؛ أصبحت وطنها الآمن، صارت تمشي في الشوارع المزدحمة بثقةٍ هادئة، تبتسم للغريب وتقول في سرّها: «ما أجمل هذا الصمت حين يملؤه الله».
كانت تكتب في مذكرتها كل ليلة: «كنت أبحث عن حبٍ يُبقيني، فوجدت حبًّا يُحييني».. «السكينة ليست أن يتوقف الضجيج من حولي، بل أن يسكن داخلي»، ومع مرور الوقت، لم تعد الغربة جرحًا، بل معلمًا، علّمتها كيف تصغي، وكيف ترى، وكيف تحيا وهي لا تنتظر أحدًا.
كانت تشعر أن كل خطوةٍ تخطوها تعيدها إلى نفسها الأولى، نقية، صادقة، مؤمنة أن الله كان يكتب لها الرحمة في كل ما ظنته قسوة، وفي ختام رحلتها كتبت جملةً من كتاب «Women Who Run With the Wolves» لـ«كلاريسا بنكولا إستِس»، كأنها توقّع بها على صفحة شفاءها الأخير، العزلة ليست هزيمة، بل مسافة كافية لاستعادة صوتك.
ثم أغلقت دفترها، وابتسمت، هذه المرة لم تكن ابتسامة امرأةٍ تحاول الصمود، بل ابتسامة من وجدت نفسها أخيرًا؛ وهكذا، تحوّلت الغربة إلى صلاةٍ طويلة، والوحدة إلى طريقٍ نحو النور.
فبينما تخفت أضواء الغربة ويعلو نور الوعي، كانت روحها تستعد لرحلتها القادم، رحلة النظر إلى الداخل.. مرآة الروح، فها هي وُلدت امن جديد، هادئة، ناضجة، وممتلئة بما لا يُفقد أبدًا: «الإيمان».. يتبع.









0 تعليق