في مهرجان الإسماعيلية الدولي للفنون الشعبية، لا تتوقف العروض عند حدود الرقص والغناء، بل تمتد لتطرح أسئلة أعمق عن معنى التراث ذاته، وعن دوره في صياغة الوعي الجمعي وإعادة بناء الهوية الثقافية في زمن التحولات الكبرى، ومن بين هذه الأسئلة جاء حديث الدكتور مسعود شومان، رئيس الإدارة المركزية للشئون الثقافية، لـ «البوابة نيوز»، والذي تناول مشروعه الممتد لأكثر من 20 عامًا واصافًا إياه بـ «مشروع عمري» لإعادة كتابة التراث المصري وتوثيقه برؤية علمية ومعاصرة، بما يجعله منفتحًا على الواقع ومتصلاً بذاكرة المكان والإنسان.

«وصف مصر» برؤية مصرية
يقول «شومان» إن فكرة المشروع انطلقت من حاجة حقيقية إلى أن يكتب المصريون تراثهم بأيديهم، بعدما ظل المستشرقون طوال قرون يقدمون صورة مصر كما رأوها هم، لا كما هي في الواقع، ويضيف: «بدأت عملي في هذا المشروع منذ عام 2002، أي منذ ما يقرب من ربع قرن، واشتغلت عليه في كل موقع توليته، سواء أثناء عملي مديرًا عامًا للثقافة العامة، أو في مشروع الأطلس، أو عندما كنت رئيس تحرير مجلة «الثقافة الجديدة»، حيث خصصت في كل عدد ملفًا توثيقيًا عن جانب من مكونات الشخصية المصرية».
- لابد من إعادة كتابة التراث المصري وتوثيقه برؤية علمية ومعاصرة
- الثقافة وسيلة لتغيير أنماط الحياة وخفض معدلات المرض وتحسين جودة المعيشة
ويتابع «شومان» في تصريحات خاصة لـ«البوابة نيوز» موضحًا: «أنجزت أكثر من 42 ملفًا حول بحيرات مصر ومقابرها وصحاريها وبدوها ومتاحفها ومكتباتها ومساجدها، وكل ملف منها يصلح أن يكون كتابًا مستقلاً، وكان الهدف دائمًا أن نعيد قراءة مصر من الداخل، عبر الإنسان الذي يعيش فيها ويشكلها بثقافته وعاداته وموروثه».
من التوثيق إلى الفعل الثقافي
ويرى شومان أن دراسة التراث ليست حنينًا إلى الماضي بل مدخلًا للتنمية والفهم، مؤكدًا على أن «الثقافة يمكن أن تكون وسيلة لتغيير أنماط الحياة وخفض معدلات المرض وتحسين جودة المعيشة، لأن أنماط السلوك اليومية هي انعكاس مباشر للثقافة السائدة».
ويضرب مثالاً على ذلك بقوله: «في مناطق مثل سيوة والوادي الجديد تنتشر أمراض معينة لها علاقة بالعادات الغذائية والبيئية، ولو تم التعامل مع هذه المشكلات من منظور ثقافي يمكن للدولة أن توفر الكثير من الإنفاق الطبي».
مضيفًا :«أن أحد الملفات المهمة التي أنجزها، ملف «العمارة الشعبية»، كشف عن فجوة كبيرة بين سياسات البناء الرسمية والبيئة الاجتماعية للناس، «حين تبني الدولة مساكن لا تراعي عادات السكان أو تصوراتهم للبيت، يرفضون السكن فيها، لأن البيت ليس جدرانًا فقط، بل منظومة قيم وسلوكيات».
متباعًا: «الفلاح يريد أن تكون الماشية قريبة منه، والنوبي مرتبط بالماء، والبدوي لا يستوعب فكرة السلم في العمارة، لذلك فشل كثير من مشروعات الإسكان لأنها تجاهلت الخصائص الأنثروبولوجية للمجتمع».
التراث والمعرفة العلمية
ولفت «شومان» إلى أن الأنثروبولوجيا ليست علمًا نظريًا، بل أداة أساسية في التخطيط الصحي والعمراني، موضحًا أن هناك فرعًا علميًا معروفًا باسم «أنثروبولوجيا الصحة والمرض» يدرس العلاقة بين الممارسات الثقافية وانتشار الأمراض.
ويضيف: «حتى في العصور القديمة يمكننا الآن معرفة أمراض المومياوات من خلال التحليل العلمي، وهذا يؤكد أن فهم الإنسان لا ينفصل عن ثقافته ومحيطه».
كما يرى أن الاستفادة من هذه المعارف في رسم السياسات العامة يمكن أن تُحدث فارقًا هائلًا في جودة الحياة، داعيًا إلى أن يكون الأنثروبولوجي جزءًا من أي فريق عمل للتخطيط أو التطوير، لأنه الأكثر فهمًا للإنسان وثقافته.
الذاكرة الرقمية وذكاء التوثيق
أما عن مستقبل الثقافة والموروث الثقافي الشعبي في ظل التحول التكنولوجي الهائل الحاصل الآن، لفت «شومان» إلى ضرورة الاستفادة من أدوات الذكاء الاصطناعي في إعادة كتابة التراث وتوثيقه، قائلًا: «إن المجتمعات لا تعيش إلا بذاكرتها، وإذا لم نعيد كتابة تراثنا برؤية معاصرة تراعي التحولات الجديدة، فسوف نفقد الرابط الذي يجعلنا نفهم أنفسنا».
- مشروعات الإسكان فشلت لأنها تجاهلت الخصائص الأنثروبولوجية للمجتمع
- يجب الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في إعادة كتابة التراث وتوثيقه
أشار إلى إيمانه الكبير بأهمية ودور الثقافة لاسيما المتعلقة بالتراث والهوية إذ قال :«إن المستقبل الثقافي لن يقوم على الحفظ وحده، بل على التحليل وإعادة التفسير، مستندًا إلى أدوات رقمية تساعد الباحثين في المقارنة والتحليل والاستنتاج».
من المهرجان إلى المشروع الوطني
تتلاقى رؤية شومان الفكرية مع ما أكده اللواء خالد اللبان، مساعد وزير الثقافة لشئون الهيئة العامة لقصور الثقافة، الذي قال إن «مهرجان الإسماعيلية الدولي للفنون الشعبية ليس مجرد احتفالية فنية، بل مساحة للتواصل الحضاري وتبادل الخبرات الثقافية».
الثقافة فعل حياة
فكلاهما يلتقيان عند نقطة جوهرية وهي «أن الثقافة فعل حياة»، وأن المهرجان بما يقدمه من عروض وندوات فكرية إنما يُعيد تعريف التراث بوصفه طاقة مستمرة تتجدد في مواجهة التحديات، وهناك معلومات كثيرة لا بد من استكمالها حول الرقصات الشعبية للشعوب ومعرفة عاداتهم ومعتقداتهم، كما أننا سنعمل على أن يكون مع كل وفد قادم من الفرق الأجنبية باحث في التراث الشعبي، حتى نستطيع الاستفادة من معرفته بتراث هذه الشعوب. فمن الميدان الشعبي إلى البحث الأكاديمي، ومن الرقصات التي تحفظ ذاكرة القرى إلى الدراسات التي توثق ملامحها، تتجلى فكرة واحدة وهي «أن مصر لا تزال تكتب نفسها من جديد، بأقلام أبنائها هذه المرة».
واختتم شومان حديثه بإعادة السؤال الجوهري حول رؤية الهيئة العامة لقصور الثقافة في مجال التراث والموروث الثقافي الشعبي، وهو كيف نحول التراث من مادة للماضي إلى أداة للمستقبل؟
وربما يكون مشروع «وصف مصر» الجديد الذي ينشده شومان هو تلك الخريطة الإنسانية التي تجمع بين العلم والفن، بين الموروث والحداثة، وبين الذاكرة والمستقبل، لتبقى مصر حاضرة في وعيها كما هي في وجدان أبنائها.

























0 تعليق