أبوبكر الديب يكتب: "الإقتصاد الإنشطاري" القتل بالأرقام لا بالرصاص

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

هناك لحظات في التاريخ لا تبدو مدهشة عند وقوعها، لكنها تغيّر كل قواعد اللعبة بعد مرور وقت قليل.. ويشهد العالم اليوم مرحلة جديدة من التحوّل المالي يمكن وصفها بـ"الاقتصاد الانشطاري"، حيث لم تعد العولمة تعني وحدة النظام الاقتصادي، بل تفككه إلى دوائر مغلقة لكل منها عملتها وقواعدها وتحالفاتها.. فبينما كانت الأسواق تتحدث بلغة واحدة لعقود، بدأت تظهر لهجات مالية مختلفة تعبّر عن مصالح متباينة، وتكشف عن صراع خفي بين القوى الكبرى لإعادة رسم خريطة النفوذ النقدي.

إنه زمن ما بعد الترابط المالي، حيث تسعى الدول إلى حماية اقتصادها من الآخرين بقدر ما كانت تسعى يومًا لفتح أسواقها أمامهم.

ففي عالمٍ يتغيّر دون ضجيج، تُخاض اليوم حروب بلا جيوش ولا مدافع، لكن ضحاياها بالملايين.

رصاصها قرارات مالية، وساحتها أسواق وأسهم وعملات، أما جبهتها فهي النظام المالي العالمي الذي بدأ يتشقق من الداخل.

نحن أمام حقبة جديدة من الصراع؛ لا تقاس فيها القوة بعدد الدبابات، بل بقدرة الدول على فرض عملتها، وتأمين شبكتها الاقتصادية، والتحكم في تدفق المال والبيانات.

إنه زمن "الاقتصاد الانشطاري".. حين يتحوّل النفوذ إلى معادلات رقمية، وتصبح الأزمات وسيلة لإعادة توزيع القوة على خريطة العالم.

اليوم نحن في واحدة من تلك اللحظات.. ليس مجرد هبوط سوق أو أزمة مالية عابرة، بل بداية تحوّل أعمق، ما يمكن أن يطلق عليه "الاقتصاد الانشطاري" تخيّل شبكة عنكبوتية عملاقة تُرْبط بها الاقتصادات عبر حدود مفتوحة، ثم فجأة يُقتطع من تلك الشبكة خيط تلو الآخر، لتُبنى بدلًا منه شبكات أصغر متماسكة داخليًا، ومعزولة عن بعضها إلى حدٍّ ما، هذا ما يجري الآن.

السبب ليس واحدًا ولا بسيطًا.. هناك تراكمات من خيبات العولمة.. أزمات صحية وسياسية واقتصادية كشفت هشاشة الاعتماد المتبادل.. الدول اكتشفت أن نقاط الضعف في سلاسل الإمداد والمصادر الحيوية يمكن استغلالها سياسيًا، فصارت تقيّم علاقتها بالنظام المالي العالمي بمعيارين: الكفاءة والأمن.. عندما يصبح "البقاء" أولوية، يشيع التفكير بمنطق "نحن أولًا"، وهكذا تبدأ خطوط التقاطع بالتقلص.

إلى جانب ذلك، التكنولوجيا سخّنت المواقد: إمكانات الدفع الرقمي، أنظمة تسوية موازية، وعملات رقمية للبنوك المركزية أسهل في تطويعها لتعمل داخل حدود منظومة معينة. النتيجة؟ قوة مالية جديدة تُبنى بسرعة دون الحاجة لأعوام طويلة من التأسيس التقليدي.

لا نشهد قارة واحدة تفصل عن غيرها فجأة، بل مجموعة من "الدوائر" التي تتداخل أحيانًا وتنفصل أحيانًا أخرى.. هناك دائرة لا تزال متماسكة حول أدوات وأساليب التمويل التقليدية، ودائرة أخرى تصدر أفعالها النقدية من بروتوكولات رقمية وسياسات تجارية مغايرة، ودائرة ثالثة تبحث عن استقلالية عبر ربط ثرواتها بالموارد الطبيعية والبنى التحتية الإقليمية.

كل دائرة تطوّر لغتها النقدية وأدواتها.. أنظمة دفع بديلة، آليات تسوية، شبكات ائتمانية إقليمية، وحتى مخازن احتياطية غير تقليدية.. هذا لا يعني انفصالًا تامًا، لكنه يعني أن كل دائرة تجهّز نفسها لتعمل إذا قررت بقية الدوائر إغلاق الصنبور.

التفت للعالم الاقتصادي بحواسٍ مفتوحة، وسترى انعكاسات الانشطار في كل زاوية: ارتفاع تكاليف المعاملات عبر الحدود، تقلبات أكبر في أسواق النقد، وصعود سلوك الحذر لدى المستثمرين. بالنسبة للدول الصغيرة، الأمر له طعم مُرّ، فقدان سهولة الوصول إلى تمويل عالمي رخيص قد يحوّل مشاريع بنية تحتية طموحة إلى أحلام مؤجلة. أما للشركات العابرة للقارات، فالمعادلة أصبحت أصعب: هل تستثمر في منظومة متوافقة مع دائرةٍ واحدة فقط أم تبني كفاءة تشغيلية متعددة المسارات؟.

وللأفراد أيضًا، فإذا اعتمد نظامك المصرفي أو نظام مدفوعات بلدك على خارطة واحدة ثم تحركت الخارطة، فقد تواجه تبعات مباشرة على تحويلاتك، مدخراتك، ووصولك للخدمات المصرفية.

من السهل السقوط في سيناريوهات سوداوية.. انغلاق تام، تدفق رياح مالية شرسة، حروب نقدية.. لكن الواقع قد يحفل بمرحلة وسيطة أقل دراماتيكية: تكتلات متنافسة تتعايش معًا بحذر، تحتفظ بقنوات طوارئ، وتتفاوض على قواعد لعب جديدة. نحن لسنا أمام نهاية واحدة للترابط، بل أمام إعادة ترتيب لقواعده وشروط اللعبة.

الانشطار يفتح أبوابًا لمن يعرف كيف يستثمر في الهشاشة.. هناك من سيبنون منصات دفع إقليمية منافسة، وهناك من سيبتكر أدوات تمويل جديدة تربط بين الموارد المحلية والأسواق الإقليمية.. لكنه أيضًا يخلق مجالًا لارتفاع "الاقتصاد الرمادي"، أسواق تمويلية بديلة تعمل خارج أطر الشفافية التقليدية، وتتيح تحركات نقدية لا يخضع بعضها لرقابة موحدة.

من جهة أخرى، فإن السؤال الأخلاقي والسياسي يطرح نفسه بقوة، هل سنقبل بنظام عالمي حيث تُختار الأطراف التي تتمتع بالوصول للتعامل عبر دوائر مغلقة؟ أم نبحث عن معايير عالمية جديدة تحمي الدول الضعيفة والمستهلك العادي؟.

المنطقة أمام مفترق طرق.. دول تملك احتياطيات واستثمارات كبيرة يمكنها التأقلم والتفاوض بين الدوائر، وتلك التي تعتمد على الوصول الحر إلى الأسواق الخارجية قد تجد نفسها مضطرة لإعادة بناء سياساتها المالية. الذكاء هنا ليس في اختيار أحد الأطراف فقط، وإنما في المرونة، تنويع الاحتياطات، بناء بنى تحتية مالية رقمية وطنية قابلة للاندماج مع أكثر من شبكة، واستحداث اتفاقيات إقليمية تقلل من المخاطر وتزيد القدرة التفاوضية.

الاقتصاد الانشطاري ليس كتابًا مغلقًا يُقرأ مرة واحدة؛ إنه حالة ديناميكية تتشكل كل يوم عبر قرارات سياسية، تطورات تقنية، وتحولات اقتصادية.. من لم يستعد لهذه المرحلة قد يجد نفسه أمام حائط مالي جديد صعب الاختراق. ومن استشعر التغيير مبكرًا فإنه سيصنع قواعد لعبه بنفسه.

في النهاية، لا تنتهي العولمة بقرار أو بإعلان، إنها تتحول، تتشظى، ثم تُصاغ أشكال جديدة من الاعتماد المتبادل. السؤال ليس إن كان الانشطار سيحدث، بل كيف سنضمن أن تكون شبكة الروابط الجديدة أكثر عدلًا واستقرارًا، بدلًا من أن تصبح حصارًا دائمًا يميّز بين من يملك القدرة ومن لا يملكها.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق