أبوبكر الديب يكتب: العالم في قبضة "الكود"

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في زمنٍ تتسارع فيه التقنيات بوتيرةٍ تفوق قدرة الإنسان على الفهم، أصبحت الخوارزميات، تلك المعادلات الرقمية التي تعمل بصمت داخل الحواسيب والمنصات، هي القوة الحقيقية التي تُعيد تشكيل العالم، فهي التي تحدد ما نراه ونقرأه ونشتريه، وتوجّه اقتصادات الدول وسلوك الأفراد دون ضجيج.

لم تعد السلطة بيد الحكومات وحدها، بل في يد من يملك الشفرة التي تحرّك مليارات القرارات اليومية حول الكوكب.

سردٌ واحد، وصوتٌ واحد، وحكاية عن عالم يتغير بصمت..  عندما نتحدّث اليوم عن نفوذ لا يُقاس بالحدود ولا بالقواعد العسكرية وحدها، فإننا نتكلّم عن خوارزمياتٍ صارت تُعيد رسم أولويات الشعوب والاقتصادات والإعلام.

في بيوت البرامج ومختبرات الذكاء الاصطناعي تُصنع الآن أدوات تعرف عن الناس أكثر مما يعرفون هم عن أنفسهم، هذه الأدوات لا تكتفي بفلترة المحتوى، بل تُعيد ترتيب العالم حسب ما تراها نموذجاتها مربحًا أو جذابًا أو قابلًا للترويج.

تخيّل كمًّا من البيانات ينمُو سنويًا لدرجة أن مقاييس الصناعة توقعت أن يتجاوز حجم الحيز الرقمي العالمي، الذي نولد فيه معلوماتنا وذكرياتنا وصورنا ومعاملاتنا، مئات الزيتابايت خلال منتصف العقد، وهو رقمٌ لا يعكس مجرد مقدار تخزين بل يعكس محطة جديدة في تاريخ القوة: من يمتلك بنى تحتية لتحليل هذا الكمّ يملك قدرة استباقية على الأسواق والميول والقرارات.

ثم يأتي البعد الاقتصادي ليؤكد أن ما يحدث ليس ترفًا تقنيًا بل إعادة توزيع مكاسب: دراسات تقدّر أن الذكاء الاصطناعي قد يضيف تريليونات للدخل العالمي خلال العقد المقبل، ما يعني أن هناك مكتسبات اقتصادية ضخمة على المحك، وأن الدول والشركات التي تُسيطر على الخوارزميات ونماذجها ومخازن بياناتها ستجني نصيبًا أكبر من هذا النمو.

 هذا المزيج من الكمّ والربح هو ما حوّل السباق إلى سباق بنيوي: الاستثمارات الهائلة في النماذج التوليدية وحِزم الحوسبة المتقدمة تُركّز القوة في أيادٍ محدودة، وفي الوقت نفسه نرى موجة تمويلية وتوسعية جعلت من منصات الذكاء الاصطناعي لاعبًا اقتصاديًا وسياسيًا لا يُمكن تجاهله. أما على مستوى الانتباه فالأمر أكثر حميمية: الخوارزميات لا تفرض سيطرة صارخة، بل تقنع بهدوء، هي التي تختار أي قصص تظهر أولًا في موجزاتنا، أي فيديوهات تستحوذ على وقتنا، وأي إعلانات تُعرض لنا بدقةٍ يمكنها أن تستهدف شعورًا أو حدثًا محددًا.

ومع هذا التخصيص ينشأ سوقٌ مزدوج الفائدة - للمعلنين والمنتجين - يضخّ رأس المال في منصات التحكم بالاهتمام، وينتج حلقة تغذية مرتدة: مزيد من التخصيص يعني مزيدًا من الوقت، يعني مزيدًا من البيانات، يعني نماذج أكثر تميّزًا، وتفرز في النهاية قدرةً أكبر على التأثير.

وهنا تتداخل المسارات.. ما بدأ كأدوات تسهيل انتقل إلى أدوات توجيه، وما كان يُنظر إليه بوصفه موردًا تقنيًا صار موردًا استراتيجيًا يُقاس بنفوذ يُمكن استخدامه لتحقيق أغراض اقتصادية وسياسية.

والنتيجة هي تحول في موازين القوى العالمية، الدول التي تستثمر في سلاسل الإمداد الحاسوبية وفرق البحث والقدرة على تدريب النماذج تصبح عوامل ضبط للإيقاع الاقتصادي والسياسي العالمي، بينما تصبح الدول الأضعف مستهلكةً لهذه الخدمات، معرضةً لتأثيراتٍ يصعب مقاومتها إن لم تبنِ أدواتها الخاصة.

أما الإعلام فواجهته التحوّل الأكثر عمقًا.. كانت الصحافة سلطة رابعة تُنظم النقاش العام، لكنها اليوم تعمل في بيئة حيث الخوارزميات تقرر من يصل إليه الخبر أولًا ومن يتجاهله، وتحدد آليات الانتشار والوصول، فتنهار أمام ذلك قُدرات التوزيع التقليدية وتبرز الحاجة إلى مهارات جديدة في الاستقصاء والتدقيق الرقمي.

وفي الجانب الإيجابي، نفسه، يمكن لهذه الأدوات أن تُسارع التحقق من المعلومات، أن تُسهّل تحليل قواعد بيانات ضخمة، وأن تمنح الصحفيين قدرةً على الوصول إلى قصص مخفية في كومات البيانات؛ لكن هذا يتطلب إطارًا أخلاقيًا وقانونيًا واضحًا وإلّا انقلبت الأداة إلى آلية لتضخيم الذعر أو تزوير الواقع.

أمام هذا المشهد تنشأ مساءلة واضحة.. هل سنقبل أن تُصاغ أجنداتنا العامة بواسطة خوارزميات صمّمها مهندسون يعملون بأهداف تجارية في شركات خاصة أو بمؤسسات حكومية لا شفافية كافية لديها؟ الجواب، أو على الأقل المطلوب، هو أن نُعيد التفكير في مزيج السياسات: حماية الخصوصية لم تعد رفاهية، والشفافية في تدريب النماذج ليست ترفًا بل شرطًا للديمقراطية، وتمكين الجوانب المحلية من البحث والبنى التحتية ليس خيارًا بل ضرورة لتفادي أن نكون أسواقًا فقط لمنتجاتٍ تقرِّر عنا أكثر مما نقرر لأنفسنا. إذًا، المسألة ليست فقط من يملك الخوارزمية بل أيضًا من يملك القدرة على محاسبتها وتنظيمها وتوزيع فوائدها.

وفي النهاية، عندما نفكّر في مستقبلنا، لا ينبغي أن ننتظر أن تعيد الخوارزميات كتابة قواعد الحياة بمحض إرادتها، علينا نحن أن نكتب قواعد استخدامها، وأن نضمن أن أهداف هذه الخوارزميات تخدم المصلحة العامة وتحمِي الحقوق، وإلا فسوف يصبح النفوذ المعلوماتي حكمًا ضمنيًّا لا يُرى، يقود قراراتً تخصّ الناس من دون أن تمنحهم حقًا في معرفة سبب هذا القرار أو كيفية الطعن فيه. العالم الجديد إذًا ليس فقط عالمًا للعاملين في التكنولوجيا، بل ساحة سياسية وثقافية تحتاج تشريعاتٍ وأطرًا ومهارات جديدة، وإلا فإن الخوارزميات ستظلّ تحكم الكثير من تفاصيل حياتنا كما لم يحكمها شيء من قبل.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق