في ليالي باريس لا شيء يحجب المطر، وأنا قادم من بلاد الجنوب، حيث تفرش الشمس أجنحتها على طرق الحزن والذكريات.
لا شيء رمادي في بلادي سوى الموت، البحر أزرق، والسماء، والطرقات سوداء، وحده الموت رمادي اللون.
في سماء باريس تلمع الأضواء، والضوضاء، والمارّة، والعربات، كل شيء يلمع، حتى النساء، لا يوجد هنا ما يشبه الغبار سواي.
أهرول إلى ساحة الكونكورد، هنا كما يردد بودلير: “لا يسود سوى النظام والجمال، والترف، والهدوء، واللذة الرقيقة”.
وأنا على موعد عشاء يجمعني به وأرواد.
كنت أراه دائمًا شهابًا يضيء ويختفي خلف منابر الأندلس القديمة، وقصور أمراء الطوائف.
لغةٌ ترسو بلا تحية في مرفأ الكلام.
أرواد أميرته، أميرة الوهم والحضور، أو كما يقول لامارتين: “كائنٌ واحدٌ فقط يغيب عنك… فيغدو العالم كلّه خاليًا”، تلك هي أرواد بالنسبة لأدونيس.
مهيار كنيته، وريحته، وصمته حين يبدأ في التأمل.
صهوة جوادٍ خبأت نارًا، طيرٌ يراوح بين خطوي والريح.
أيقونة من شغفٍ يطيش على أثر تطويحها شعرٌ وشعراء.
همهمات العصافير، فمه حين يطلقه بالكلام.
في الصحارى البعيدة كان هو رواية المحبين، والمطوفين حول كلمات الهوى.
شهاب يمرّ ويختفي عبر هسهسات الليل، لكنه يترك في القلب طعنته الجميلة.
كرهته يومًا، لكنني أحببته بقدر كراهيتي، عندما أدركت شغف الوصول، والتنصّل، والترصّد، والولوج إلى سدرة الهوى.
بعيدٌ أنا عن بلادي، قلت له، ولكنني عندما أقرأ لك أحسّ بوخز إبرةٍ تحفّزني على الرحيل من كوكبٍ إلى كوكب، طيرٌ يطير من شجرةٍ إلى شجرة.
ضحك ضحكته الجميلة، ثم أدركني بالسؤال: أتدرك أن حضارتكم القديمة تعادل كل ما أنتجه العرب من حضارات؟
وخزتني الكلمة، هدهدتني، أبعدتني عن حروف الكلام العادي، لأمسك بالورع بين السطور.
قلت له: على الرغم من أنها لم تحكِ إلى الآن حكايتها كاملة، أرواد تزن الكلام بنظرة، ثم تُصغي للعيون التي عشقتها طويلًا، وتسهب في الصمت.
كان أدونيس منتشيًا فرحًا تلك الليلة، وهو يضع يده على لبّ الأزمة، ويصيح: تلك هي المعضلة!
العرب يعيشون منذ زمن بعيد بين شقّي رحى لم يغادروها: الاستعادة والاستعارة.
هم دائمًا أسرى استعادة الماضي أو استعارة الحاضر، ماضيهم وحاضر الغرب صنوان مختلفان.
لم نعد منتجين للحضارة أو للأدب أو للشعر، بقدر ما أصبحنا مستهلكين لكل تلك الأجناس، مما تسبب في دهس عقولنا قبل أجسادنا بين شقّي تلك الرحى.
سألني أدونيس في تعجّب وهو يلوّح بيديه:
في ظنّك، هل يمكن الخروج من تلك الدوّامة الخبيثة؟
قلت له: بالطبع، طالما في العمر بقيّة، شريطة أن نمتلك الإرادة والحرية.

0 تعليق