عبدالرحيم علي يكتب: أدونيس.. أيقونة من شغفٍ

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في‭ ‬ليالي‭ ‬باريس‭ ‬لا‭ ‬شيء‭ ‬يحجب‭ ‬المطر،‭ ‬وأنا‭ ‬قادم‭ ‬من‭ ‬بلاد‭ ‬الجنوب،‭ ‬حيث‭ ‬تفرش‭ ‬الشمس‭ ‬أجنحتها‭ ‬على‭ ‬طرق‭ ‬الحزن‭ ‬والذكريات‭.‬

لا‭ ‬شيء‭ ‬رمادي‭ ‬في‭ ‬بلادي‭ ‬سوى‭ ‬الموت،‭ ‬البحر‭ ‬أزرق،‭ ‬والسماء،‭ ‬والطرقات‭ ‬سوداء،‭ ‬وحده‭ ‬الموت‭ ‬رمادي‭ ‬اللون‭.‬

في‭ ‬سماء‭ ‬باريس‭ ‬تلمع‭ ‬الأضواء،‭ ‬والضوضاء،‭ ‬والمارّة،‭ ‬والعربات،‭ ‬كل‭ ‬شيء‭ ‬يلمع،‭ ‬حتى‭ ‬النساء،‭ ‬لا‭ ‬يوجد‭ ‬هنا‭ ‬ما‭ ‬يشبه‭ ‬الغبار‭ ‬سواي‭.‬

أهرول‭ ‬إلى‭ ‬ساحة‭ ‬الكونكورد،‭ ‬هنا‭ ‬كما‭ ‬يردد‭ ‬بودلير‭: ‬“لا‭ ‬يسود‭ ‬سوى‭ ‬النظام‭ ‬والجمال،‭ ‬والترف،‭ ‬والهدوء،‭ ‬واللذة‭ ‬الرقيقة”‭.‬

وأنا‭ ‬على‭ ‬موعد‭ ‬عشاء‭ ‬يجمعني‭ ‬به‭ ‬وأرواد‭.‬

كنت‭ ‬أراه‭ ‬دائمًا‭ ‬شهابًا‭ ‬يضيء‭ ‬ويختفي‭ ‬خلف‭ ‬منابر‭ ‬الأندلس‭ ‬القديمة،‭ ‬وقصور‭ ‬أمراء‭ ‬الطوائف‭.‬

لغةٌ‭ ‬ترسو‭ ‬بلا‭ ‬تحية‭ ‬في‭ ‬مرفأ‭ ‬الكلام‭.‬

أرواد‭ ‬أميرته،‭ ‬أميرة‭ ‬الوهم‭ ‬والحضور،‭ ‬أو‭ ‬كما‭ ‬يقول‭ ‬لامارتين‭: ‬“كائنٌ‭ ‬واحدٌ‭ ‬فقط‭ ‬يغيب‭ ‬عنك‮…‬‭ ‬فيغدو‭ ‬العالم‭ ‬كلّه‭ ‬خاليًا”،‭ ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬أرواد‭ ‬بالنسبة‭ ‬لأدونيس‭.‬

مهيار‭ ‬كنيته،‭ ‬وريحته،‭ ‬وصمته‭ ‬حين‭ ‬يبدأ‭ ‬في‭ ‬التأمل‭.‬

صهوة‭ ‬جوادٍ‭ ‬خبأت‭ ‬نارًا،‭ ‬طيرٌ‭ ‬يراوح‭ ‬بين‭ ‬خطوي‭ ‬والريح‭.‬

أيقونة‭ ‬من‭ ‬شغفٍ‭ ‬يطيش‭ ‬على‭ ‬أثر‭ ‬تطويحها‭ ‬شعرٌ‭ ‬وشعراء‭.‬

همهمات‭ ‬العصافير،‭ ‬فمه‭ ‬حين‭ ‬يطلقه‭ ‬بالكلام‭.‬

في‭ ‬الصحارى‭ ‬البعيدة‭ ‬كان‭ ‬هو‭ ‬رواية‭ ‬المحبين،‭ ‬والمطوفين‭ ‬حول‭ ‬كلمات‭ ‬الهوى‭.‬

شهاب‭ ‬يمرّ‭ ‬ويختفي‭ ‬عبر‭ ‬هسهسات‭ ‬الليل،‭ ‬لكنه‭ ‬يترك‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬طعنته‭ ‬الجميلة‭.‬

كرهته‭ ‬يومًا،‭ ‬لكنني‭ ‬أحببته‭ ‬بقدر‭ ‬كراهيتي،‭ ‬عندما‭ ‬أدركت‭ ‬شغف‭ ‬الوصول،‭ ‬والتنصّل،‭ ‬والترصّد،‭ ‬والولوج‭ ‬إلى‭ ‬سدرة‭ ‬الهوى‭.‬

بعيدٌ‭ ‬أنا‭ ‬عن‭ ‬بلادي،‭ ‬قلت‭ ‬له،‭ ‬ولكنني‭ ‬عندما‭ ‬أقرأ‭ ‬لك‭ ‬أحسّ‭ ‬بوخز‭ ‬إبرةٍ‭ ‬تحفّزني‭ ‬على‭ ‬الرحيل‭ ‬من‭ ‬كوكبٍ‭ ‬إلى‭ ‬كوكب،‭ ‬طيرٌ‭ ‬يطير‭ ‬من‭ ‬شجرةٍ‭ ‬إلى‭ ‬شجرة‭.‬

ضحك‭ ‬ضحكته‭ ‬الجميلة،‭ ‬ثم‭ ‬أدركني‭ ‬بالسؤال‭: ‬أتدرك‭ ‬أن‭ ‬حضارتكم‭ ‬القديمة‭ ‬تعادل‭ ‬كل‭ ‬ما‭ ‬أنتجه‭ ‬العرب‭ ‬من‭ ‬حضارات؟

وخزتني‭ ‬الكلمة،‭ ‬هدهدتني،‭ ‬أبعدتني‭ ‬عن‭ ‬حروف‭ ‬الكلام‭ ‬العادي،‭ ‬لأمسك‭ ‬بالورع‭ ‬بين‭ ‬السطور‭.‬

قلت‭ ‬له‭: ‬على‭ ‬الرغم‭ ‬من‭ ‬أنها‭ ‬لم‭ ‬تحكِ‭ ‬إلى‭ ‬الآن‭ ‬حكايتها‭ ‬كاملة،‭ ‬أرواد‭ ‬تزن‭ ‬الكلام‭ ‬بنظرة،‭ ‬ثم‭ ‬تُصغي‭ ‬للعيون‭ ‬التي‭ ‬عشقتها‭ ‬طويلًا،‭ ‬وتسهب‭ ‬في‭ ‬الصمت‭.‬

كان‭ ‬أدونيس‭ ‬منتشيًا‭ ‬فرحًا‭ ‬تلك‭ ‬الليلة،‭ ‬وهو‭ ‬يضع‭ ‬يده‭ ‬على‭ ‬لبّ‭ ‬الأزمة،‭ ‬ويصيح‭: ‬تلك‭ ‬هي‭ ‬المعضلة‭!‬

العرب‭ ‬يعيشون‭ ‬منذ‭ ‬زمن‭ ‬بعيد‭ ‬بين‭ ‬شقّي‭ ‬رحى‭ ‬لم‭ ‬يغادروها‭: ‬الاستعادة‭ ‬والاستعارة‭.‬

هم‭ ‬دائمًا‭ ‬أسرى‭ ‬استعادة‭ ‬الماضي‭ ‬أو‭ ‬استعارة‭ ‬الحاضر،‭ ‬ماضيهم‭ ‬وحاضر‭ ‬الغرب‭ ‬صنوان‭ ‬مختلفان‭.‬

لم‭ ‬نعد‭ ‬منتجين‭ ‬للحضارة‭ ‬أو‭ ‬للأدب‭ ‬أو‭ ‬للشعر،‭ ‬بقدر‭ ‬ما‭ ‬أصبحنا‭ ‬مستهلكين‭ ‬لكل‭ ‬تلك‭ ‬الأجناس،‭ ‬مما‭ ‬تسبب‭ ‬في‭ ‬دهس‭ ‬عقولنا‭ ‬قبل‭ ‬أجسادنا‭ ‬بين‭ ‬شقّي‭ ‬تلك‭ ‬الرحى‭.‬

سألني‭ ‬أدونيس‭ ‬في‭ ‬تعجّب‭ ‬وهو‭ ‬يلوّح‭ ‬بيديه‭:‬

في‭ ‬ظنّك،‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬الخروج‭ ‬من‭ ‬تلك‭ ‬الدوّامة‭ ‬الخبيثة؟

قلت‭ ‬له‭: ‬بالطبع،‭ ‬طالما‭ ‬في‭ ‬العمر‭ ‬بقيّة،‭ ‬شريطة‭ ‬أن‭ ‬نمتلك‭ ‬الإرادة‭ ‬والحرية‭.‬

07dbd57744.jpg
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق