في قلب عروس البحر المتوسط| مكتبة الإسكندرية.. صرح علمي متفرد تضيء العالم بتراثها وكتبها النادرة

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في قلب عروس البحر الأبيض المتوسط وبالتحديد على الشاطئ الجنوبي له، تقع مكتبة الإسكندرية التي كانت في العصور القديمة  عاصمة للعلم والفكر،، فكانت أعظم مكتبة عرفها الحضارة الإنسانية، فهي أول مكتبة عامة في تاريخ المكتبات الغربية، كانت قبلة للعماء والباحثين والمفكرين والفلاسفة يستقون منها ومما تمله من كنوز وخلاصة الفكر البشري. 

تعود أهمية مكتبة الإسكندرية إلى الدور العظيم الذي لعبته في تاريخ الحضارة الإنسانية، فقد حفظت لنا التراث الإغريقي القديم بما تحويه من كنوز أدبية ونصوص قيمة في شتى العلوم من فلسفة ومنطق وعلم الجمال والرياضيات وعلوم الفلك وغيرها من العلوم التي كان لها بالغ الأثر في نشأة وتكوين الحضارة الأوروبية الحديثة وتطويرها. 

كانت مكتبة الإسكندرية منارة للعلم ووجهة للباحثين حتى أحرق الإمبراطور "ماركوس أورليوس" جزءًا كبيرًا منها وتم نقل ما تبقى من مقتنياتها إلى المكتبة الصغرى في "السرابيوم" لتذهب المكتبة نتيجة الصراع بين المسيحيين والوثننيين.

نقطة اشعاع جديدة 

وفي العصر الحديث عادت الفكرة مرة أخرى من خلال المشروع الذي قدمته مصر، وهو مشروع إحياء مكتبة الإسكندرية وذلك بمساعدة منظمة اليونسكو، ليسير الصرح المصري الجديد على خطى الأجداد ولتكون المكتبة مركز إشعاع حضاري ومعرفي في كل أنحاء العالم. 

وفي عام 1988 وُضع حجر الأساس للمكتبة الحديثة في الموقع القريب من المكتبة القديمة نفسها، وجاء التصميم المعماري تحفة فريدة فاز بها مكتب «سنوهيتا» النرويجي وصمم البناء على شكل دائري مائل إلى البحر، يُشبه قرص الشمس وهو يشرق من الأفق، تحيط به جدران من الجرانيت الرمادي المنقوش عليها حروف من جميع لغات العالم، في دلالة على أن المعرفة الإنسانية لا تعرف حدودًا.

افتُتحت مكتبة الإسكندرية الجديدة رسميًا في أكتوبر 2002، لتعلن ميلاد عصر جديد للثقافة المصرية والعربية. ومنذ لحظتها الأولى، بدأت في جمع مقتنياتها من الكتب والمراجع والمخطوطات، سواء عن طريق التبرعات العالمية أو الإهداءات الشخصية والمؤسساتية. قدمت مكتبة الكونجرس الأمريكية، والمكتبة الوطنية الفرنسية، واليونسكو، وعدد من دور النشر الكبرى إسهامات ضخمة لإثراء رفوفها. كما شاركت العديد من الدول العربية في مدها بإصداراتها الوطنية، لتصبح المكتبة مركزًا توثيقيًا ضخمًا للتراث العربي والإسلامي إلى جانب التراث العالمي.

اليوم، تضم المكتبة أكثر من مليوني كتاب بلغات متعددة، ومجموعة نادرة من المخطوطات العربية واليونانية والقبطية، فضلًا عن أرشيفات رقمية هائلة تغطي التاريخ الإنساني من أقدم العصور إلى العصر الحديث. 

ومن أبرز مقتنياتها مصحف عثمان النادر، ومجموعة خرائط نادرة تعود إلى القرون الوسطى، ووثائق رسمية وشخصية لمفكرين مصريين وعرب.

المراكز البحثية

وفي إطار رسالتها التنويرية، تحتضن المكتبة عددًا من المراكز البحثية المتخصصة، من بينها «مركز توثيق التراث الحضاري والطبيعي» الذي يعمل على حفظ وتوثيق ذاكرة مصر منذ عصور الحضارة المصرية القديمة حتى اليوم، و«مركز المخطوطات» الذي يعكف على صيانة التراث الورقي النادر باستخدام أحدث تقنيات الحفظ الرقمي.

كما تضم المكتبة عددًا من المتاحف المتخصصة، منها متحف الآثار الذي يعرض قطعًا نادرة عُثر عليها أثناء بناء المكتبة، ومتحف المخطوطات الذي يضم كنوزًا من التراث العربي والإسلامي، ومتحف العلوم، وقاعات للفن الحديث، ومعارض دائمة للفنانين المصريين الشباب، في إشارة إلى أن المكتبة ليست فقط معبدًا للماضي، بل منصة مفتوحة للإبداع المعاصر.

مقتنيات الرواد

ومن أهم مشروعاتها أيضًا «ذاكرة مصر المعاصرة» الذي يوثق تاريخ مصر الحديث بالصورة والوثيقة والفيديو، و«مكتبة الطفل» و«مكتبة طه حسين للمكفوفين» و«مكتبة الشباب»، بما يجعلها مؤسسة إنسانية شاملة تتوجه إلى جميع فئات المجتمع.

كما أطلقت المكتبة مبادرة «المكتبة الرقمية العالمية» بالتعاون مع اليونسكو ومكتبة الكونجرس الأمريكي، لتتيح للباحثين حول العالم الوصول إلى أندر المخطوطات والخرائط والصور عبر الإنترنت، وهو ما يجعلها من أوائل المؤسسات الثقافية التي أدركت مبكرًا أهمية التحول الرقمي في صون التراث ونشر المعرفة.

لقد أصبحت مكتبة الإسكندرية اليوم مرجعًا عالميًا في مجالات التوثيق الرقمي والترجمة والنشر العلمي، وملتقى للحوار بين الثقافات من خلال مؤتمراتها الدولية التي تجمع المفكرين والعلماء من الشرق والغرب، لتجدد بذلك رسالتها القديمة: أن المعرفة هي لغة السلام الوحيدة التي يفهمها البشر جميعًا.

وهكذا، فإن المكتبة التي أُحرقت منذ آلاف السنين، تُولد من جديد في ثوب عصري، كأنها تقول للعالم إن مصر التي أهدت الإنسانية الكتاب والبردية والحبر، لا تزال قادرة على أن تحرس ذاكرة الحضارة وتفتح أبواب المستقبل. فكما كانت الإسكندرية قديمًا منارة العالم، فإن مكتبتها اليوم هي الضوء الذي يذكّرنا بأن المعرفة لا تُسرق، وإن أُحرقت مكتبة، فالفكر يبقى خالدًا في ضمير الأرض.

مشروع ذاكرة مصر المعاصرة 

مشروع «ذاكرة مصر المعاصرة» واحد من أهم المبادرات الثقافية التي خرجت من رحم مكتبة الإسكندرية في سعيها لتوثيق ماضي الوطن القريب وحاضره، إذ يشكل هذا المشروع الضخم محاولة علمية متكاملة لبناء أكبر مستودع رقمي يجمع المواد ذات القيمة التاريخية والثقافية المرتبطة بتاريخ مصر الحديث والمعاصر. جاء هذا المشروع ثمرة تعاون مثمر بين المعهد الدولي للدراسات المعلوماتية – أحد المراكز البحثية التابعة للمكتبة – وبين إدارة المشروعات الخاصة بها، ليكون شاهدًا حيًا على مسيرة مصر منذ مطلع القرن التاسع عشر وحتى العقود الأخيرة من القرن العشرين.

يضم الأرشيف الرقمي للمشروع توثيقًا شاملًا لآخر مائتي عام من تاريخ مصر، بدءًا من عهد محمد علي عام 1805 وحتى عام 1981، مقدّمًا بانوراما زمنية ثرية لأحداث الأمة وتحولاتها السياسية والاجتماعية والثقافية. ويحتوي المشروع على أرشيف ضخم يضم 25736  وثيقة متنوعة، تتراوح بين الوثائق الإدارية والفواتير وحجج الأراضي والأطيان ووثائق الأوقاف، إلى جانب الوثائق السياسية والخطب الرسمية والمراسلات ذات الطابع الوطني.

يمثل المشروع ذاكرة رقمية حقيقية تحفظ ملامح مصر التي كانت، وتتيح للباحثين والمهتمين فرصة نادرة للغوص في تفاصيل حقب تاريخية غنية وشديدة التنوع. ومع ذلك، ورغم هذا الثراء الكبير في المحتوى، فإن الأبحاث الأكاديمية التي تناولت المشروع ما تزال محدودة للغاية؛ إذ لم تُسجل سوى دراسة علمية واحدة حتى عام 2019   بعنوان »أرشيفات العائلات المصرية على موقع ذاكرة مصر المعاصرة« ،  وهو ما يعكس الحاجة إلى مزيد من الدراسات النقدية والتحليلية التي تستثمر هذا الرصيد الوثائقي الفريد وتعيد قراءته في ضوء مناهج البحث المعاصر.

ساهم في إنجاز هذا المشروع أكثر من 130  جهة مصرية وعربية، قدّمت ما تمتلكه من وثائق ومعلومات ومواد تاريخية، من بينها دار المحفوظات ودار الهلال ودار أخبار اليوم، إلى جانب المجموعات الخاصة بعدد من كبار السياسيين والمفكرين، وكذلك الإسهامات القيّمة التي قدمتها أسر بعض الشخصيات الراحلة ممن أسهموا في صياغة الحياة الثقافية والسياسية في مصر الحديثة.

وقد عملت إدارة المشروعات الخاصة على الوصول إلى تلك المجموعات النادرة في أماكنها، حيث تم تركيب وحدات مسح ضوئي متطورة لضمان تحويل المواد إلى نسخ رقمية دون تعريضها للنقل أو التلف، في حين خضعت بعض الوثائق ذات الطبيعة الخاصة للمعالجة داخل مكتبة الإسكندرية نفسها.

هذا الإيمان العميق من أهمية المشروع ودوره في توثيق تاريخ مصر في العصر الحديث، يؤكد أن ذاكرة الأمة لا تُحفظ إلا بالعلم والتكنولوجيا، فكانت الخطوة الأولى نحو بناء أرشيفٍ رقمي متكامل يُتيح للجمهور والمؤرخين والباحثين فرصة الاطلاع على تاريخ مصر من خلال وثائقها الأصلية. 

بعد أربع سنوات من العمل المتواصل، تم إطلاق موقع «ذاكرة مصر المعاصرة» رسميًا على شبكة الإنترنت في 27   أكتوبر 2008، ليكون بمثابة مكتبة رقمية تفتح صفحاتها أمام الجميع، موثقةً لحياة المصريين منذ عصر محمد علي عام 1805 وحتى عام 1981.

وقد صُمم هذا الأرشيف ليضم باقة واسعة من المواد التاريخية والثقافية: صور نادرة، وثائق سياسية وإدارية، طوابع، عملات، تسجيلات صوتية وفيديوهات، وخطب رسمية وشعبية، إلى جانب دراسات تاريخية تناولت ملامح تلك الفترات التي شهدت تحولات كبرى في بنية الدولة المصرية ومجتمعها،  ويتجاوز المشروع كونه أرشيفًا رقميًا، ليصبح جسرًا بين الماضي والحاضر، يعيد صياغة التاريخ المصري في قالبٍ تفاعلي يواكب روح العصر الرقمي.

لقد أسهمت مكتبة الإسكندرية من خلال هذا المشروع في إحياء الذاكرة الجمعية للمجتمع المصري، وتقديمها بصورة حديثة تحافظ على أصالتها، وتتيح في الوقت ذاته للباحثين والمهتمين بالثقافة والتاريخ الوصول إلى مصادر نادرة دون عناء.. فمشروع «ذاكرة مصر المعاصرة» فكرة طموحة ومنصة وطنية للمعرفة، تُجسد الدور الثقافي لمكتبة الإسكندرية بوصفها حارسة الذاكرة المصرية، وواحدة من أهم المؤسسات التي تعمل على صون التراث وتوثيقه للأجيال القادمة.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق