أسانيد الخطاب الغربي لتبرير الدعم لإسرائيل: الأبعاد التاريخية والاستراتيجية والدينية

تحيا مصر 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تُعدّ العلاقة بين إسرائيل والديمقراطيات الغربية واحدة من أكثر الظواهر تعقيدًا واستمرارًا في سياق العلاقات الدولية الحديثة، إذ يصعب حصر تفسيرها في عامل واحد أو اختزالها في مصلحة سياسية محددة. فهي تتجاوز الأبعاد المصلحية الضيقة لتتشابك مع مستويات أعمق من الوعي الغربي، حيث تتلاقى الذاكرة التاريخية مع الإطار الثقافي والديني، وتتقاطع الاعتبارات الأخلاقية مع الحسابات الاستراتيجية. ونتيجة لهذا التداخل متعدد الأبعاد، تتحول هذه العلاقة إلى نموذجٍ فريد لتحالف يجمع بين التعاطف الرمزي والمصلحة العملية، فيما يكشف في الوقت ذاته عن فجوة مستمرة بين الخطاب المعلن والممارسة الواقعية

لقد نشأ هذا الارتباط في سياق تاريخي مثقل بإرث المحرقة النازية the Holocaust التي أصبحت حدثًا راسخاً  في الوعي الأخلاقي الغربي بعد الحرب العالمية الثانية. فقد رأى كثير من صناع القرار والمفكرين أن دعم قيام دولة إسرائيل عام 1948 يمثل شكلاً من أشكال التعويض الأخلاقي عن الجريمة التي ارتُكبت بحق اليهود في قلب أوروبا. غير أن هذا البعد، الذي انطلق من العقده الجماعي بالذنب the sense of collective guilt، تحوّل تدريجيًا إلى إطار سياسي يُستخدم لتبرير الممارسات الاستيطانية والتوسعية الإسرائيلية، بحيث أصبح “الذنب الغربي” غطاءً يمنح سياسات الاحتلال شرعية أخلاقية تعفيها من المساءلة. وقد نبّه Jean-Paul Sartre منذ خمسينيات القرن الماضي إلى خطورة تحويل الندم الأخلاقي إلى سياسة واقعية، لما يترتب على ذلك من تناقضات تُفرغ القيم من محتواها.

ومع تراجع الزخم الأخلاقي لصالح اعتبارات أخرى، برز في الوعي الغربي تصورٌ متجذر يقوم على الاعتقاد بتفوق الحضارة الغربية باعتبارها النموذج الأرقى للتقدم الإنساني. فالخطاب الغربي الذي يصوغ ذاته بوصفه حاملًا لمشروع العقلانية والتنوير يميل إلى النظر إلى إسرائيل كامتداد طبيعي لذاته الحداثية داخل فضاء شرقي يُعاد تصويره باستمرار بوصفه نقيضًا للتقدم وهو تصور لا يبتعد كثيرا عن الأفكار المتصله بما يعرف بال white supremacy الذي يعتبر العرق الأبيض هو الأعلى والأفضل على الآخرين ، وقد فصّل Edward Said هذا النمط من التفكير باعتباره شكلاً من الاستعمار الثقافي، حيث يُدرج اليهود ضمن فضاء الحداثة الغربية فيما يُقصى العرب والمسلمون إلى موقع “الآخر”. وبهذا المعنى، لا تُرى إسرائيل في المخيال الغربي ككيان سياسي مستقل فحسب، بل كجزء من الهوية الحضارية للغرب ذاته، الأمر الذي يمنح التحالف معها بعدًا رمزيًا يتجاوز حدود المصلحة المباشرة.

ومع اشتداد الصراع الدولي خلال الحرب الباردة، أعيد بناء هذا الارتباط في إطارٍ استراتيجي جديد، إذ اعتبرت الولايات المتحدة إسرائيل شريكًا أمنيًا قادرًا على حماية مصالحها في الشرق الأوسط ومنع تمدد النفوذ السوفييتي. وقد عبّرت تصريحات Nixon وKissinger عن إدماج إسرائيل في منظومة الأمن الغربية باعتبارها “حاملة طائرات أمريكية لا تُغرق” و“امتدادًا طبيعيًا للسياسة الأمريكية في المنطقة”، بما يعكس تحول إسرائيل إلى عنصر بنيوي في الهيكل الأمني الغربي.

غير أن هذا التحالف الاستراتيجي لم يتبلور بمعزل عن الجذور الدينية العميقة في المجتمعات الغربية، ولا سيما في الولايات المتحدة، حيث لعبت الصهيونيه اليهوديه Christian Zionism دورًا محوريًا في إضفاء شرعية دينيه على الدعم السياسي لإسرائيل. ويستند هذا الفكر إلى قراءة خاصة للنصوص البروتستانتية ترى أن “عودة اليهود” إلى فلسطين شرطٌ لتحقيق النبوءات المتعلقة بالمجيء الثاني للمسيح. The Second Coming of Christ وقد بدأت ملامح هذا التصور منذ القرن السابع عشر مع الحركات البروتستانتية الإنجليزية والهولندية، قبل أن يكتسب صيغة مؤسسية في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر مع صعود التيارات الإنجيلية.

ومع انتشار هذا التأويل داخل البروتستانتية الإنجيليّة، ترسّخ الاعتقاد بأن التاريخ البشري يمر بمراحل محددة تنتهي بعودة المسيح، وهي عودة لا تتحقق — وفق التأويل الإنجيلي — إلا بإقامة كيان يهودي في فلسطين. وقد ساهمت كتابات John Nelson Darby وCyrus Scofield، خاصه “إنجيل Scofield”، في ترسيخ هذا الفهم وإتاحته للجمهور ، وبحلول النصف الثاني من القرن العشرين، تحولت Christian Zionism إلى قوة سياسية مؤثرة، تجسّدت في مجموعات منظمة مثل “Christians United for Israel”، التي ربطت بين دعم إسرائيل والولاء الديني.

ومع صعود التيارات الإنجيلية في السياسة الأمريكية، أصبح هذا البعد الديني جزءًا من عملية صناعة القرار. فالموقف من إسرائيل لم يعد مجرد خيار استراتيجي، بل أصبح في نظر قطاعات واسعة من الناخبين “التزامًا دينيًا”. وقد عبّر George W. Bush عن ذلك بوضوح حين أكد أن دعم إسرائيل “التزام ديني بقدر ما هو سياسي”، في تعبير يعكس التداخل بين العقيدة الدينية والمصلحة الجيوسياسية. وهكذا، اكتسب التحالف الأمريكي–الإسرائيلي عمقًا رمزيًا يتجاوز منطق الدولة الحديثة، وأصبح نقد إسرائيل يُنظر إليه أحيانًا كمساس بالثوابت العقائدية لا بالسياسات الدنيوية.

وتتمثل خطورة هذا التصور في أنه يضفي على الصراع طابعًا مطلقًا، يجعل الممارسات الإسرائيلية — بما في ذلك الاستيطان والعمليات العسكرية — محصّنة من النقد الديني كما يعيد إنتاج خطاب ديني يبرز الإقصاء من خلال اعتقاد ديني يعيد تفسير الجغرافيا السياسية بوصفها تحقيقًا لنبوءات مقدسة، متجاهلة حقوق الشعوب الأصلية وسياقها التاريخي والقانوني. ومع استمرار تنامي الحركة الإنجيلية وتأثيرها في الحياة العامة الأمريكية، بات هذا البعد أحد الأعمدة الأساسية — وإن لم يكن المعلَن دائمًا — في تفسير استمرارية الانحياز الأمريكي لإسرائيل.

وفي السياق الأوروبي، ارتبطت العلاقة بإسرائيل بخلفيات مختلفة، إذ مثّل دعمها وسيلة رمزية للتطهر من إرثٍ طويل من معاداة السامية والاستعمار. غير أن التحولات الفكرية والاجتماعية في العقود الأخيرة بدأت تُحدث شرخًا في هذا الإجماع، مع تزايد الأصوات التي تؤكد أن نقد السياسات الإسرائيلية لا يتعارض مع مناهضة معاداة السامية. وقد أوضحت Judith Butler أن الدفاع عن العدالة للفلسطينيين يشكّل امتدادًا للمبادئ المناهضة للعنصرية، فيما وصف Jacques Derrida العلاقة الأوروبية بإسرائيل بأنها تداخل معقد بين “ذاكرة الضحية” و“ذاكرة المستعمِر”.

وتكشف هذه المسارات مجتمعة أن الدعم الغربي لإسرائيل يرتبط بأزمة أعمق في هوية الغرب ذاته. فبحسب Howard Zinn، يحتاج الغرب إلى إسرائيل للحفاظ على صورته كممثل للحداثة والتقدم، بينما يرى Tony Judt أن إسرائيل تجسد مفارقة الحداثة الغربية، إذ تؤسس نفسها على الإقصاء رغم تبرير وجودها بقيم الحرية.

وتشير التطورات الأخيرة، ولا سيما الجرائم الإسرائيلية المتصاعدة في غزة والانكشاف المتزايد لازدواجية المعايير الغربية، إلى أن هذا البناء الرمزي والسياسي بدأ يتعرض لتحديات غير مسبوقة. فقد أظهرت الاحتجاجات الجامعية والإعلامية في الغرب أن الخطاب الأخلاقي التقليدي يفقد قدرته على تبرير الانحياز لإسرائيل أمام الرأي العام. وتدل هذه التحولات على أن منظومة الدعم التي استقرت لعقود تواجه أزمة بنيوية قد تقود إلى مراجعة جذرية للعلاقة بين الغرب وإسرائيل.

وفي المجمل، تكشف هذه العلاقة عن أنها تقوم على تلاقي الذاكرة بالهوية والمصلحة، لا على المصالح السياسية وحدها. فهي علاقة تشكّلت من خليط معقد من الذنب التاريخي، والهيمنة الثقافية، والحسابات الاستراتيجية، قبل أن تصبح جزءًا من التصور الغربي لذاته في العالم. غير أن التحولات الجارية في النظام الدولي، وما تثيره السياسات الإسرائيلية من ضغوط أخلاقية متزايدة، قد تضع هذا التحالف أمام اختبار حقيقي، وقد تدفع الغرب إلى إعادة النظر في المفارقة التاريخية التي جعلت من الدفاع عن إسرائيل امتدادًا للدفاع عن ذاته إلا ان ذلك قد لا يحدث في المستقبل القريب في ضوء النفوذ الإسرائيلي الهائل لدي دوائر صنع القرار في الغالبيه العظمي من الديمقراطيات الغربيه.

 

السفير عمرو حلمي 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق