متحف “الجوهرة”.. حين فكّر المصري في المستقبل كما الماضي

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

لا يغيب عن العين أننا أمام حدث لا يشبه سواه، حدثٌ يتقاطع فيه الجمال مع الدهشة، والحجر مع الفكرة، والتاريخ مع ما لم يُكتب بعد.

المتحف المصري الكبير، أو كما يُعرف اختصارًا بـ GEM، ثلاث حروف تُختزل فيها فكرة كاملة: جوهرة، لا بالمعنى الحرفي، بل بمعناها الرمزي  أن الحضارة حين تُصاغ من جديد تصبح ضوءًا متجددًا، لا تراثًا ساكنًا.

لم يكن الاسم مصادفة، ولا كان الإنجاز مجرّد مبنى ضخم في الجيزة، بل كان إعلانًا جديدًا عن علاقة مصر بذاتها: أن تُعيد قراءة ماضيها بعين ترى المستقبل، أن تُنقذ التاريخ من الغبار، وتمنحه حياة خضراء.

تم افتتاح المتحف رسميًا بعد أكثر من عقدين من الانتظار والبناء. عقدان من الصبر على حلمٍ ضخم، كان يتنامى بين خرائط ومخططات ومثابرة عمالٍ ومهندسين وفنانين رأوا في كل حجر صفحة من كتاب مصر الطويل.

وها هو اليوم يُعلن عن نفسه لا كصرحٍ أثري فحسب، بل كأول متحف أخضر في الشرق الأوسط وأفريقيا  شهادة حيّة بأن الماضي يمكن أن يعيش في بيئة تحمي المستقبل.

فبحسب تقرير The Brew News، نال المتحف شهادة EDGE Advanced الدولية من مؤسسة التمويل الدولية (IFC)، الذراع الاستثمارية لمجموعة البنك الدولي، وهي شهادة لا تُمنح إلا للمباني التي تُحقق أعلى معايير الكفاءة في الطاقة والمياه ومواد البناء المستدامة.

إنه ليس إنجازًا معماريًا فقط، بل تحوّل بيئي وثقافي تُعلن به مصر عن نيتها في أن تكون الحضارة قديمة الفكرة، جديدة الروح.
 

المتحف الأخضر.. لغة الأرقام وموسيقى الفكرة

أن يحصل المتحف المصري الكبير على هذا اللقب ليس مجاملة ولا زينة لفظية. إنها شهادة تأتي من مؤسسات دولية تُقيس بالكفاءة لا بالشعارات.

فقد أُعلن رسميًا عن منحه الشهادة في 19 فبراير 2024، بعد أن أثبتت التصميمات كفاءتها في استخدام ثلاثة موارد أساسية: الطاقة، المياه، والطاقة المضمّنة في مواد البناء.

بينما يشترط معيار EDGE تحقيق وفورات لا تقل عن 40%، تجاوز المتحف هذه النسبة إلى نحو 60% في استهلاك الطاقة، بفضل تصميم سقفه العاكس للحرارة، كما يُقلِّل استهلاك المياه بنسبة 34%  أي ما يعادل توفير أكثر من 63 مليون لتر من مياه النيل سنويًا، وفق تقرير IFC.

تقول المؤسسة إن هذا التوفير في الطاقة يعادل “إخراج 400 سيارة تعمل بالبنزين من شوارع القاهرة لمدة عام واحد”.

الأرقام هنا ليست جافة، بل تنبض بمعنى، فهي تُعيد صياغة مفهوم البناء: أن يكون الحجر مسؤولًا، والنور محسوبًا، والهواء شريكًا في التصميم لا مجرد عنصر فيزيائي.
 

هندسة تستعيد ذاكرة الأجداد

فكرة “المتحف الأخضر” في مصر لا تنفصل عن تراثها المعماري. فالمهندسون الذين صمموا GEM لم يبتكروا من فراغ، بل استعادوا حكمة المصري القديم الذي عرف كيف يعيش في قلب الصحراء دون أن يهزمها، وكيف يبني بذكاءٍ لا يستنزف بيئته.

التصميم الهندسي للمتحف يقوم على دمج الحلول السلبية والإيجابية معًا:

فمن الخارج، يُغلف المتحف سقف عاكس للضوء يقلل امتصاص الحرارة، ويغطيه نظام تظليل ذكي يحمي الواجهات الزجاجية الممتدة من وهج الشمس، ما يقلل الحاجة إلى التبريد الميكانيكي مثل الحاجة إلى استخدام المكيفات.

أما داخله، فثمة أنظمة ذكية لقياس الطاقة والمياه تعمل لحظيًا، وحدائق داخلية ومسطحات مائية تحرك الهواء كما كانت تفعل أفنية المعابد القديمة.

تُشير شركة Holcim International المشاركة في المشروع إلى أن البناء استخدم خرسانة عازلة وزجاجًا موفرًا للطاقة وسقفًا يحد من امتصاص الحرارة، فضلًا عن ألواح شمسية تولّد جزءًا من احتياجات المتحف الكهربائية.

كل ذلك يعيد إنتاج العبارة المصرية القديمة: “من يعرف اتجاه الريح، يصنع منها بيتًا”.

إنجاز يتجاوز الجغرافيا

ما حققه المتحف المصري الكبير ليس شأنًا محليًا، بل سابقة إقليمية، كما وصفت مجلة African Property، التي أكدت أنه لم يسبق لأي متحف في أفريقيا أو الشرق الأوسط أن دمج معايير الاستدامة البيئية بهذا العمق في مشروع تراثي بهذا الحجم.

أما الهيئة العامة للاستعلامات المصرية فقد أشارت إلى أن المشروع لا يهدف إلى عرض الآثار فقط، بل إلى تقديم نموذج تنموي شامل يدمج بين الثقافة والبيئة والاقتصاد، مؤكدة أن مصر تمضي لتكون قائدًا إقليميًا في الاستدامة الثقافية.

يمتد المتحف على مساحة نحو نصف مليون متر مربع، ويضم أكثر من 100 ألف قطعة أثرية، بينها مجموعة الملك توت عنخ آمون الكاملة  لكنها في الوقت نفسه تمثل تحديًا هندسيًا؛ فالحفاظ على هذه الكنوز يتطلب تحكمًا صارمًا في درجات الحرارة والرطوبة، ما يُقيّد استخدام التهوية الطبيعية في بعض القاعات.

ومع ذلك، فإن هذه المفارقة هي التي تُعيد تعريف “الخُضرة” في السياق المصري: ليست فقط زرعًا ونوافذ مفتوحة، بل توازنًا دقيقًا بين العلم والحياة.

الاقتصاد الأخضر.. حين تصير الثقافة استثمارًا

في تقرير لـ AP News، يُشار إلى أن المتحف المصري الكبير سيُصبح مركزًا للسياحة البيئية الواعية، بما يخلق فرص عمل في مجالات الصيانة، وإدارة الطاقة، والعمارة الخضراء.

هذا النوع من الاستثمار الثقافي يُحوّل المتحف إلى قاطرة اقتصادية  فالكفاءة في الطاقة والمياه تعني خفض التكاليف التشغيلية بنسبة كبيرة، وهو ما يُترجم إلى استدامة مالية طويلة الأجل للمشروع.

لكن النجاح لا يأتي دون تحديات حيث يتطلب الحفاظ على الأداء البيئي تدريبًا مستمرًا وإدارة متخصصة، توازن بين حفظ الآثار والتشغيل الأخضر. فالمتحف الذي يضم أكثر من مائة ألف قطعة، يحتاج إلى عيونٍ ساهرة وعقولٍ تفكر في كل تفصيله من الضوء إلى الهواء.

هنا تتجلى فكرة “الاستدامة” لا كمصطلح بيئي بل كحالة وعي بل أن يكون التراث نفسه كائنًا حيًا يتنفس بقدر ما يتحدث.

جوهرة تلمع في الحاضر

لم يكن “متحف الجوهرة” اسمًا بل نبوءة، جوهرة تُضيء في قلب الصحراء، تُذكّرنا أن الحضارة ليست في الحجارة بل في العقول التي تفكر كيف تعيش بها.

المتحف المصري الكبير هو محاولة لكتابة فصل جديد في قصة مصر الطويلة مع الزمن  فصلٌ عنوانه المسؤولية.

فإن كان الأجداد قد شيّدوا المعابد لتبقى ألف عام، فإن الأحفاد اليوم شيّدوا متحفًا ليحمي ألف عام قادمة مناخًا وإنسانًا وذاكرة، وذلك هو الفرق بين أن تُعيد بناء التاريخ، أو أن تُعيد إحياءه.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق