منذ مطلع القرن العشرين ظلت القاهرة حاضرةً ملهِمة في وجدان الكتّاب والمؤرخين والرحالة، الذين رأوا فيها أكثر من مجرد مدينة، بل كائنًا حيًا ينبض بالحياة والتاريخ، ومسرحًا تتجاور فيه الحضارات وتتشابك في أزقته طبقات المعمار والروح والثقافة.
فمن المستشرق البريطاني ديزموند ستيوارت إلى الكاتب محمود إسماعيل في عمله الأخير «القاهرة.. محاولات لإنقاذ التاريخ»، تواصلت الكتابات عن القاهرة في سعيٍ دؤوب لفهم جوهر العاصمة المصرية، تلك التي جمعت بين الماضي والحاضر، واحتفظت في ملامحها بذاكرة أمة لا تعرف الفناء.
في السطور التالية، نطوف بين أبرز الكتب التي تناولت القاهرة في تاريخها وجغرافيتها ووجدانها الإنساني.

القاهرة.. في عيون ستيوارت
يُعد كتاب «القاهرة» للمستشرق البريطاني ديزموند ستيوارت من أبرز الأعمال التي تناولت المدينة من منظور حضاري وإنساني، حيث قدّم صورة بانورامية آسرة للعاصمة المصرية باعتبارها رمزًا للتفاعل بين الشرق والغرب، وميدانًا تتقاطع فيه الثقافات والأديان والحضارات.

صدر الكتاب لأول مرة بالإنجليزية ثم تُرجم إلى العربية عام 1969 تزامنًا مع احتفالات القاهرة بمرور ألف عام على تأسيسها على يد المعز لدين الله الفاطمي، ثم أُعيدت طباعته عام 1987 عن دار المعارف. وكتب مقدّمته اثنان من كبار المفكرين المصريين هما الدكتور جمال حمدان ويحيى حقي، ما أضفى عليه قيمة فكرية إضافية.
من خلال لغة أدبية دقيقة وتحليل ثقافي عميق، رسم ستيوارت صورة للقاهرة كمدينة تجمع بين البذخ المعماري والتناقض الاجتماعي، بين القداسة اليومية والحياة الشعبية المتدفقة، لتغدو في نصه مدينة الذاكرة والتنوع.
القاهرة في فكر جمال حمدان
في دراسته الجغرافية الرائدة، قدّم المفكر الدكتور جمال حمدان رؤية علمية مغايرة عن القاهرة، رآها نتاجًا فريدًا لموقعها الجغرافي ودورها التاريخي، لا كعاصمة سياسية فحسب، بل كقلب نابض لمصر كلها.

تناول حمدان في مؤلفاته مفهوم "الشخصية الجغرافية للقاهرة" بوصفها مدينة ذات ملامح لا تتكرر، تشكلت بفعل موقعها بين الصحراء والنيل، وبتأثير تاريخها الذي جعلها مركزًا للسلطة والعلم والفن منذ قرون.
ملامح القاهرة في ألف سنة.. جمال الغيطاني
أما الأديب جمال الغيطاني، فقد قدّم في كتابه «ملامح القاهرة في ألف سنة» عملًا فنيًا يُعيد رسم ملامح المدينة عبر سردٍ أدبيٍ شفاف يفيض بعشق المكان وذاكرته.
ينتقل الغيطاني بين الأزقة والمقاهي والحوانيت، متتبعًا نبض الحياة اليومية في القاهرة القديمة، ومتوغلًا في تاريخها من الفاطميين إلى المماليك وصولًا إلى بدايات القرن العشرين.

يكتب الغيطاني عن المدينة كما يكتب شاعر عن محبوبته، فيجعل من القاهرة قصيدة مفتوحة على الزمن، تُروى بلسان الشغف والتاريخ والحنين.
ويربط الكاتب بين تفاصيلها المادية ـ كالمآذن والمقاهي ـ وبين أدب نجيب محفوظ الذي جعل من القاهرة بطلة لأعماله الخالدة.
القاهرة.. محاولات لإنقاذ التاريخ
ويأتي أحدث هذه الإصدارات في كتاب «القاهرة.. محاولات لإنقاذ التاريخ» للكاتب محمود إسماعيل، بترجمة عاصم عبد ربه حسين، والصادر عن المركز القومي للترجمة برئاسة الدكتورة رشا صالح.
الكتاب يمثل رحلة تأملية عميقة داخل قلب القاهرة، المدينة التي وصفها ابن بطوطة عام 1325 بأنها "أم البلاد وقرارة فرعون ذي الأوتاد".

يستعيد إسماعيل تاريخ المدينة من زواياها المعمارية والثقافية، كاشفًا التحولات التي عرفتها من مدينة تزهو بعمارتها الإسلامية والقبطية إلى عاصمة تواجه تحديات الحداثة من ازدحام وتلوث وطمس للملامح التراثية.
ويمزج الكاتب بين التحليل التاريخي والرؤية الجمالية، فيرصد كيف يمكن للمدينة أن تتجدد دون أن تفقد روحها، متسائلًا:كيف نحافظ على هوية القاهرة وسط موجات التمدد العمراني والتغير الثقافي؟
ويستعرض الكتاب جهود المعماريين والمثقفين في إنقاذ روح القاهرة، سواء عبر مشروعات الترميم أو من خلال الكتابة والإبداع، لتظل المدينة حيّة في الوعي الجمعي، لا مجرد أثرٍ من الماضي.
وبين هذه الأعمال الممتدة من ديزموند ستيوارت إلى جمال الغيطاني ومحمود إسماعيل، تبدو القاهرة في الأدب والفكر والتاريخ مدينة لا تُختصر في زمن ولا تُروى في كتاب واحد، بل هي نص مفتوح، يتجدد بتجدد من يكتبها، ويعيد صياغة نفسه كلما حاول أحدهم أن يلتقط ملامحها الهاربة من بين يدي الزمان.















0 تعليق