في عالم يسحره بريق القوة ويدفعه سباق التسلح نحو الدمار، برز اسم جوزيف روتبلت كأحد أكثر العلماء شجاعة وإنسانية في القرن العشرين، فقد كان الرجل الذي اختار أن يترك مشروع القنبلة الذرية في أوج مجده العلمي، ليتفرغ لاحقًا إلى الدعوة من أجل السلام ونزع السلاح النووي.
من وارسو إلى قاعات العلم
ولد روتبلت في مدينة وارسو البولندية عام 1908 لأسرة يهودية متوسطة الحال، أظهر منذ صغره شغفًا بالعلم والفيزياء، فدرس بجامعة وارسو، ثم حصل على درجة الدكتوراه في الفيزياء النووية، كانت سنوات شبابه تتزامن مع فترة من الاضطرابات السياسية وصعود النازية في أوروبا، ما اضطره لاحقًا إلى الهجرة إلى بريطانيا حيث واصل أبحاثه في جامعة ليفربول.
وهناك التحق بفريق الفيزيائي الشهير جيمس تشادويك مكتشف النيوترون، وبدأ مسيرته في دراسة الانشطار النووي، وهو المجال الذي كان يفتح الباب أمام القنبلة الذرية.
العالم الذي قال “لا”
ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية، دعي روتبلت للانضمام إلى مشروع مانهاتن في الولايات المتحدة، وهو المشروع السري الذي كان يعمل على تطوير أول قنبلة نووية في التاريخ، لكن ما إن علم أن هدف المشروع لم يعد ردع ألمانيا النازية كما كان يقال، بل أصبح إعداد السلاح لاستخدامه ضد اليابان وربما ضد الاتحاد السوفييتي لاحقًا، حتى اتخذ قراره الأخلاقي الحاسم.
عام 1944، ترك روتبلت المشروع طواعية وعاد إلى بريطانيا، في خطوة وصفت حينها بأنها “جنون علمي”، لكنه لم يتراجع عن قناعته بأن العلم يجب أن يخدم الحياة لا أن يدمرها.
من القنبلة إلى راية السلام
بعد الحرب، كرس روتبلت حياته لبحوث الطب النووي السلمي، وأسهم في تطوير تقنيات التصوير الإشعاعي لعلاج السرطان، لكنه لم ينس الجانب الأخلاقي للعلم، فأسس مع الفيلسوف برتراند راسل وألبرت آينشتاين ما عرف بـ بيان راسل آينشتاين عام 1955، وهو الوثيقة التي دعت العلماء إلى تحمل مسؤولياتهم تجاه البشرية.
كان هذا البيان الشرارة التي أطلقت مؤتمرات باغواش للعلوم والشؤون العالمية، وهي لقاءات دولية تجمع العلماء لمناقشة نزع السلاح وتعزيز السلام، وقد استمرت حتى اليوم.
نوبل من أجل الإنسانية
في عام 1995، منح جوزيف روتبلت جائزة نوبل للسلام تكريمًا لجهوده في مقاومة سباق التسلح النووي، وعند تسلمه الجائزة، قال عبارته الخالدة:
“العلماء خلقوا القوة النووية، وعليهم أن يتحملوا مسؤولية ترويضها.”
إرث لا يزول
رحل روتبلت عام 2005 عن عمر ناهز 96 عامًا، لكنه ترك للعالم درسًا خالدًا في الشجاعة الأخلاقية، فقد أثبت أن العالم الحقيقي ليس من يكتشف القنبلة، بل من يملك الشجاعة ليقول لا حين يصبح العلم أداة للدمار.
وهكذا سيظل جوزيف روتبلت رمزًا للضمير العلمي، وعنوانًا لإنسان آمن بأن أعظم إنجاز علمي هو صنع السلام لا الحرب.












0 تعليق