أدى سقوط مدينة الفاشر في دارفور، بعد حصار دام ثمانية عشر شهرًا، إلى تضخيم المخاوف من أن مقاتلي الميليشيات شبه العسكرية ـ الذين يسيطرون أيضًا على معظم منطقة دارفور بغرب السودان ـ قد يشرعون في موجة من عمليات القتل بدوافع عرقية.. لقد أصبحت الفاشر واحدة من أسوأ ساحات المعارك في الحرب، بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع شبه العسكرية، التي تمتد الآن إلى عامها الثالث.. ويعني سقوطها في أيدي الميليشيات شبه العسكرية، أن الجيش السوداني قد تخلى الآن عن آخر موقع رئيسي له في دارفور، وهي منطقة مترامية الأطراف بحجم فرنسا.
ضاعفت ميليشيا الدعم السريع جهودها للسيطرة على الفاشر منذ أبريل الماضي، بعد طردها من العاصمة السودانية الخرطوم.. وبعد أشهر من تصعيد الهجمات بالطائرات بدون طيار والمدفعية الثقيلة، استولت ميليشيا الدعم السريع على القاعدة العسكرية الرئيسية في الفاشر يوم الجمعة قبل الماضي، مما أدى إلى تشتيت القوات السودانية ومقاتلي دارفور المتحالفين معها في الأحياء السكنية.. وأصرّ المسئولون العسكريون السودانيون في البداية على أن قواتهم تواصل القتال، لكنهم بحلول أواخر يوم الاثنين الماضي، كانوا قد انسحبوا من المدينة.. وفي خطاب متلفز، قال قائد الجيش السوداني، الفريق عبد الفتاح البرهان، إن الانسحاب كان يهدف إلى (تجنيب المواطنين وباقي المدينة الدمار).. وبدأت الأخبار تنتشر على وسائل التواصل الاجتماعي ومن منظمات الإغاثة، بأن مقاتلي ميليشيا الدعم السريع كانوا يطاردون المدنيين، ويقتلونهم أحيانًا، أثناء فرارهم من المدينة.
وأفاد مختبر الأبحاث الإنسانية في كلية (ييل) للصحة العامة، بأن صور الأقمار الصناعية قدمت أدلة على عمليات قتل جماعي، ارتكبتها ميليشيا الدعم السريع أثناء سقوط المدينة.. وذكر المختبر في تقرير نُشر يوم الاثنين، أن الصور تُظهر، على ما يبدو، جثثًا متجمعة بالقرب من ساتر ترابي طويل بنته ميليشيا الدعم السريع حول الفاشر على مدار الأشهر الخمسة الماضية، لتطويق المدينة بالكامل.. وأكد أن الصور تتفق مع تقارير عن (عمليات إعدام بالقرب من الساتر، وقتل أشخاص حاولوا الفرار من المدينة بعبور هذا الساتر).. وقالت (هيومن رايتس ووتش)، إن الصور الواردة من الفاشر (تكشف حقيقة مروعة: تشعر ميليشيا الدعم السريع بالحرية في ارتكاب فظائع جماعية دون خوف يُذكر من العواقب.. وعلى العالم أن يتحرك لحماية المدنيين من جرائم أكثر بشاعة).
●●●
ومع استمرار دوي المدافع وقصف الطائرات المسيرة واحتدام الاشتباكات، عادت واشنطن إلى واجهة الملف السوداني في محاولة لالتقاط خيوط أزمة تجاوز عمرها عامين ونصف العام، خصوصًا وأنه منذ الخامس عشر من أبريل 2023 يخوض الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع حربًا، لم تفلح وساطات إقليمية ودولية عديدة في إنهائها.. تلك الحرب أسفرت عن مقتل نحو عشرين ألف شخص وتشريد أكثر من خمسة عشر مليونًا، بين نازح ولاجئ، وفق تقارير أممية ومحلية، في حين قدرت دراسة أعدتها جامعات أمريكية عدد القتلى بنحو مائة وثلاثين ألف شخص.
وعلي وقع تدهور الأوضاع الإنسانية، وتفاقم المعاناة الإنسانية في عدة مناطق جراء انتشار الجوع والأمراض، كثفت الإدارة الأمريكية اتصالاتها مع الحكومة السودانية، ومع حلفائها الإقليميين في محاولة لإعادة النبض إلى مسارٍ تفاوضي طال ركوده، بعد أن فقدت الجهود السابقة زخمها، إثر فشلها في تحقيق اختراق حقيقي يوجد حل للأزمة التي طال أمدها.. وترعى الولايات المتحدة والسعودية منذ السادس من مايو 2023، محادثات بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع، أسفرت في الحادي عشر من الشهر ذاته، عن أول اتفاق في جدة بين الجانبين للالتزام بحماية المدنيين.. وآنذاك، جرى الإعلان عن أكثر من هدنة وقع خلالها خروقات وتبادل للاتهامات بين المتصارعين، مما دفع الرياض وواشنطن لتعليق المفاوضات.
وأعلن مستشار الرئيس الأمريكي للشئون الإفريقية، مسعد بولس، أن المجموعة الرباعية الدولية بحثت جهود التوصل لـ (هدنة إنسانية عاجلة ووقف دائم لإطلاق النار)، وشكلت لجنة مشتركة للتنسيق بشأن الأولويات العاجلة في السودان.. وتشكلت الرباعية الدولية بقيادة الولايات المتحدة في سبتمبر الماضي، بهدف الوصول إلى تسوية سياسية في السودان، وتضم أيضا السعودية والإمارات ومصر.. وقال بولس، إن واشنطن استضافت (ممثلين عن مصر والسعودية والإمارات، في اجتماع للمجموعة الرباعية، بهدف تعزيز الجهود الجماعية الرامية إلى تحقيق السلام والاستقرار في السودان).. كما تناول الاجتماع، الجهود الرامية إلى (تأمين هدنة إنسانية عاجلة، وتحقيق وقف دائم لإطلاق النار، ووقف الدعم الخارجي ـ دون ذكر جهة الدعم ـ ودفع عجلة الانتقال إلى الحكم المدني).. وقد أكد المجتمعون التزامهم بالبيان الوزاري الصادر في الثاني عشر من سبتمبر الماضي، (واتفقوا على إنشاء لجنة عملياتية مشتركة لتعزيز التنسيق بشأن الأولويات العاجلة).. وقد دعت الرباعية الدولية في هذا البيان الوزاري، إلى هدنة إنسانية أولية لثلاثة أشهر في السودان، لتمكين دخول المساعدات الإنسانية العاجلة إلى جميع المناطق، تمهيدًا لوقف دائم لإطلاق النار.. يلي ذلك، إطلاق عملية انتقالية شاملة وشفافة تُستكمل خلال تسعة أشهر، بما يلبّي تطلعات الشعب السوداني نحو إقامة حكومة مدنية مستقلة، تحظى بقاعدة واسعة من الشرعية والمساءلة.
الحراك الأمريكي سبقه نفي من مجلس السيادة السوداني، في بيان، لوجود مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة مع ميليشيا الدعم السريع في واشنطن.. لكن المجلس أشار إلى أن (موقف الدولة ثابت وواضح تجاه أي حوار أو تسوية، وهو الالتزام بالحل الوطني الذي يحفظ سيادة البلاد ووحدتها واستقرارها وحقوق الشعب السوداني).. وبحسب مراقبين، يبدو التحرك الأمريكي وتكثيف واشنطن اتصالاتها مع عواصم إقليمية مؤثرة في الملف السوداني، نتيجة تزايد القناعة، بأن استمرار الحرب يهدد الأمن الإقليمي، ويفاقم الأوضاع الإنسانية في السودان ودول الجوار.. كما أن واشنطن، وفق مطلعين على الأزمة السودانية، تبحث عن توازن جديد، من خلال الضغط لاستئناف المفاوضات بين الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع، لا سيما مع تصاعد حدة الاشتباكات مؤخرًا.
المحلل السياسي السوداني أمير بابكر عبد الله، رأى أن المباحثات الأمريكية مع الحكومة السودانية، تأتي في سياق الضغوط المستمرة لوقف الحرب، حيث بادرت واشنطن بالشراكة مع السعودية، لإطلاق منبر جدة بعد أقل من شهر من اندلاع تلك الحرب، (المفاوضات حينها كانت ضمن أجندة الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة جو بايدن.. ومع صعود الإدارة الأمريكية الجديدة، برئاسة دونالد ترامب، بدت أكثر اهتمامًا بقضايا السلام في العالم عمومًا، بما يخدم مصالحها، خصوصًا وأنها تتبنى شعار أمريكا أولًا.. وانخرطت الإدارة الجديدة في عملية سلام السودان، بالتنسيق مع أطراف عدة، انطلاقًا من منبر جدة الذي يمثل أول مائدة تفاوض قبل بها طرفا الحرب.. وقد بدت الخطوات الأمريكية أكثر جدية، بانتقال الملف السوداني إلى طاولة البيت الأبيض، وتولي مستشار الرئيس الأمريكي، مسعد بولس للملف، بدلًا من الخارجية، وهو ما يؤكد زيادة الاهتمام بقضايا السلام.. وهنا، لا يمكن فصل المباحثات الأمريكية عن جهود الرباعية، فهي جزء من الآلية، بل كانت بمبادرة منها ورؤيتها في أن تشمل كلًا من السعودية والإمارات ومصر لتأثير هذه الدول على مشهد الحرب في السودان.. وأيضًا، ولأهمية خلق التوازن المطلوب، بما يرفع من حجم ثقة الأطراف المتحاربة في الآلية، كمبادرة قادرة على إحداث اختراق في الأزمة السودانية، خصوصًا بعد الإعلان الذي أطلقته الآلية في الثاني عشر من سبتمبر، وتضمن ملامح واضحة لخارطة الطريق).
●●●
مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، تلقى يوم الاثنين الماضي، تقاريرًا متعددة، تفيد بأن ميليشيا الدعم السريع، كانت ترتكب فظائع وتعدم مدنيين يحاولون الفرار من الفاشر.. وصرح فولكر تورك، المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان، في بيان، (إن خطر وقوع المزيد من الانتهاكات والفظائع واسعة النطاق ذات الدوافع العرقية في الفاشر يتزايد يومًا بعد يوم). كما أعرب الاتحاد الإفريقي عن قلقه العميق (إزاء تصاعد العنف والفظائع المبلغ عنها في الفاشر)، إذ تؤجج القوى الأجنبية سفك الدماء.. فقد زودت الإمارات العربية المتحدة ميليشيا الدعم السريع بطائرات مسيرة ومدفعية وأسلحة أخرى.. كما زودت تركيا وروسيا وإيران الجيش بالأسلحة أو باعتها له، أحيانًا مقابل الذهب.
بدورها، أعلنت الحكومة السودانية رسميًا، يوم الأربعاء الماضي، مقتل أكثر من ألفي مدني في مدينة الفاشر على يد ميليشيا الدعم السريع.. وقالت نائب مفوض العون الإنساني بالسودان، منى نور الدائم، في مؤتمر صحفي بمدينة بورتسودان، (إن الأحداث التي شهدتها مدينة الفاشر على يد الميليشيا المتمردة مأساة كبرى.. حيث قامت هذه الميليشيا قامت بتصفية المرضى والجرحى في المستشفيات بوحشية وبدم بارد، وقتلت أكثر من ألفي مواطن منذ دخولها المدينة.. انتزعت أرواح المدنيين العزل بلا رحمة، وتمت ملاحقتهم خلال رحلة النزوح، ولم تتوفر مساحة للنجاة للفارين الذين تعرضوا للملاحقة والقتل والاغتصاب، وأن جميع القتلى تمت تصفيتهم أثناء محاولتهم الخروج من المدينة هربًا من الاشتباكات).. وانتقدت نور الدائم ما وصفته بـ (الصمت الدولي تجاه ما يحدث في الفاشر ومدينة بارا)، قائلة إن (الجثث ظلت ملقاة في الشوارع والميادين العامة، فيما اكتفى المجتمع الدولي بالصمت دون اتخاذ خطوات جادة لوقف الكارثة).
وإذا كانت الحرب في السودان قد استمرت لأكثر من عامين، فإن ذلك يعود جزئيًا إلى تدخل القوى الأجنبية.. وإذا جنبنا مصر والمملكة العربية السعودية، الداعمين الرئيسيين للشرعية في السودان، ممثلة في الجيش الوطني السوداني، وإليهما يعزو الكثيرون، النجاحات الأخيرة التي حققتها القوات المسلحة السودانية في ساحة المعركة، حفاظًا على وحدة السودان وسلامة أراضيه.. إلا أنه في الوقت نفسه، أصبحت الإمارات العربية المتحدة داعمًا رئيسيًا لميليشيا الدعم السريع، وهي خطوة برّرتها باتهام القوات المسلحة السودانية بالانتماء إلى جماعة الإخوان المسلمين!!، مع أن حميدتي وميليشيات الدعم السريع، هم صناعة نظام حكم البشير، رأس الإخوان في السودان!!.. وخلص تقرير لمرصد الصراعات السودانية، بـ (يقين شبه مؤكد)، إلى أنه بين يونيو 2023 ومايو 2024، نقلت اثنتان وثلاثون رحلة جوية أسلحة من الإمارات العربية المتحدة إلى ميليشيا الدعم السريع، التي اتهمتها إدارة الرئيس الأمريكي السابق، جو بايدن، (بارتكاب إبادة جماعية).
ومن القوى الدافعة وراء تورط القوى العربية والإفريقية في حرب السودان، السعيُ إلى الوصول إلى البحر الأحمر الاستراتيجي والسيطرة عليه.. في فبراير 2025، أعلن وزيرا الخارجية الروسي والسوداني التوصل إلى اتفاق يسمح لروسيا بإنشاء قاعدة بحرية في بورتسودان.. وليس سرًا، أن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، عمل على توسيع العلاقات العسكرية والدبلوماسية التركية في منطقة القرن الإفريقي.. وبالنسبة لتركيا، تكمن مصلحتها في الترويج لنفسها كقوة عظمى.. في ديسمبر 2024، اتصل إردوغان بقائد الجيش السوداني، الفريق أول عبد الفتاح البرهان، وعرض عليه (التدخل لحل النزاعات بين السودان والإمارات العربية المتحدة).. إلا أنه لا يجب إغفال ما يتردد، عن أن أنقرة تمد، في ذات الوقت، ميليشيا الدعم السريع بالأسلحة، خصوصًا الطائرات المُسيرة، التي لعبت دورًا مهمًا في إطالة أمد الصراع داخل السودان.
●●●
والآن.. تتجه الأنظار بشدة صوب واشنطن، لاستطلاع ما سيكون عليه موقف إدارة الرئيس، دونالد ترامب، من مخارج للحل في السودان، بعد سيطرة الدعم السريع على مدينة الفاشر عاصمة إقليم دارفور.. ورغم عدم وضوح ردود فعل أمريكية عاجلة، فإن الخبراء يعرضون لمصالح الولايات المتحدة ويسعون لاستشراف حذر لدوافعها في السودان.. بعد يوم من سقوط الفاشر في السادس والعشرين من اكتوبر الماضي، قال كبير مستشاري الرئيس الأمريكي للشئون العربية والإفريقية، مسعد بولس، إن (التطورات في الفاشر مقلقة لجهة حجم التجاوزات على الأرض.. هذا التطور استراتيجي، حيث يمكن أن يكون بداية لنوع من تقسيم السودان كما حدث في ليبيا على سبيل المثال.. وهذا أمر غير مقبول)، وأن الولايات المتحدة ستبذل، مع شركائها، جهودًا لمنع ذلك.. وأوضح أن واشنطن وشركاءها ملتزمون بالخطة التي وضعتها الرباعية الدولية، والتي تتضمن ثلاثة أشهر من الهدنة الإنسانية تليها مرحلة انتقالية.. وشدد بولس على أن الشق الإنساني يمثل أولوية لدى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لافتًا إلى أن السودان (يشكل اليوم أكبر كارثة إنسانية على الإطلاق).. وكشف أن الولايات المتحدة قدمت ورقة مقترح لوقف إطلاق النار الإنساني مدة ثلاثة أشهر، (لاقت ترحيبًا أوليًا من طرفي النزاع.. وسنمنح فرصة أخيرة لأطراف السودان قبل اتخاذ اجراءات).. وأعلن أن (واشنطن ترفض أن تكون جماعة الاخوان المسلمين وأنصار النظام السابق في الواجهة مستقبلًا).
تعتبر مصادر أمريكية مراقبة، أن الولايات المتحدة ما زالت تعمل مع الرباعية، التي تضمها مع السعودية ومصر والإمارات، على اعتبارات أن لهذه الدول مصالح في السودان، وتمتلك علاقات ونفوذ مع أطراف الصراع.. كما ان هذه الدول تعتبر السودان دولة مهمة جيوسياسيًا لأمن البحر الاحمر، كما يهمها ضبط الوضع الداخلي، ووقف حالة الميليشيات التي تعوًل استراتيجيات إدارة ترامب على ضبطها في كل المنطقة.. هذه الدول الأربع، وعلى الرغم من اختلاف أجنداتها في السودان، إلا أنها متفقة على وحدتها ضد أي نفوذ إيراني، وأي أنشطة لجماعات الإسلام السياسي، بما يتوافق مع سياسة واشنطن في المنطقة.
ويقول مركز التقدم العربي للسياسات، أن جهات بحث تشير إلى أنه بعد ضرب التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة لتنظيم داعش في العراق وسوريا، انتقل هذا التنظيم لينشط في إفريقيا، وأن مقاربة واشنطن في السودان هدفها منع الإرهاب من الاستفادة من فوضى هذا البلد.. وتضيف هذه المصادر، أن رؤية واشنطن لنزاع السودان لا يختلف عن رؤية ترامب للسلام في كل المنطقة، وفق روح ما أراده لاتفاق غزة، وأن واشنطن معنية بمنع إيران من استخدام موانئ السودان لإيصال الأسلحة إلى جماعة الحوثي في اليمن.. ومن مصلحة إدارة ترامب، التوصل إلى حلّ يُنهي النزاع في دولة وقَّعت على الاتفاقات الإبراهيمية التي يريدها ترامب مثالًا يحتذى ويتوسع في المنطقة.
وتشير المصادر أيضًا إلى أن شركاء واشنطن داخل الرباعية، هم أيضًا شركاؤها في اتفاق غزّة، وكانوا من ضمن اجتماع ـ حضره أعلى تمثيل لثمانية دول عربية وإسلامية ـ دعا إليه ترامب في نيويورك في السابع والعشرين من سبتمبر الماضي، قبل يومين من إعلانه خطته لغزة.. وتكرر أوساط متابعة في واشنطن، أن الإدارة لن تسمح ـ لأهداف تتعلق بمصالح الولايات المتحدة في إفريقيا ـ بأن يكون السودان دولة فاشلة، لما يُشكله الأمر من خطر على استقرار القارة السمراء، ويضعف نفوذ واشنطن لدى بلدان المنطقة.. إلا أن هذه المصادر تشير إلى حديث مسعد بولس عن (الفرصة الأخيرة)، ورغم عدم وضوح ما يمكن لواشنطن أن تفعله في حال أخفقت الرباعية في إنهاء الحرب في السودان.. وتتساءل عن الأدوات التي تمتلكها واشنطن، غير تلك التي مارستها سابقًا.. إذ سبق لواشنطن أن درجت رئيس مجلس السيادة قائد الجيش السوداني، الفتاح البرهان، وقائد ميليشيا قوات الدعم السريع، محمد حمدان دقلو ـ حميدتي ـ في قائمة العقوبات المالية.. وأقرت وزارة الخارجية الأمريكية بوقوع جرائم حرب وجرائم إنسانية وجرائم تطهير عرقي.. وفرضت عقوبات على شركات، من بينها إماراتية.
وتعتقد مصادر أمريكية أن جهود دول الرباعية تصطدم مع مصالح أطراف الصراع المحليين.. وفيما تشتبه هذه المصادر من أن الجيش والدعم السريع يعملان على فرض أمر واقع ميداني على الرباعية نفسها، ترى آراء أخرى، أن الطرفين مستفيدان من دعم بعض أطراف الرباعية، وعدم وجود إرادة واحدة حاسمة بينها لفرض وقف النزاع، ويرى خبراء في شئون السودان، أن لا جدوى للعقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة، أو قد تفرضها على الصف الأول لقيادة الجيش والدعم السريع، بالنظر إلى أن اقتصاد الحرب لدى الطرفين تسيره صفوف خلفية لدى الطرفين، وأن اقتصاد الحرب لا يمكن ضبطه من قبل الخزانة الأمريكية.. ذكّروا أيضًا، أن هذه العقوبات قلما غيرت الشيء الكثير على موقف أطراف أي سلطة في السودان منذ ثلاثين عامًا.. ويدفع هؤلاء إلى الحاجة الى أدوات ضغط أكثر فعالية.. لذلك، فإن هؤلاء يتظلعون، بعد إعلان ترامب تمكنه من وقف سبعة حروب، إلى دور جدي لواشنطن، خصوصًا وأنه في ولاية ترامب الأولى اهتمت الإدارة بالسودان، وأصدرت قانون لحماية الفترة الانتقالية، إضافة إلى زيارة قام بها وزير الخارجية الأمريكي وقتئذ، مايك بومبيو، إلى السودان، في أغسطس 2020.. وتقول مصادر أمريكية، إن واشنطن رفعت من زخمها الدبلوماسي قبل سقوط الفاشر في يد الدعم السريع، وسيستمر هذا الزخم: دعمًا لمصالح الولايات المتحدة في الحفاظ على استقرار البحر الأحمر، وأمن ومصالح الدول الشريكة للولايات المتحدة هناك.. منع إيران من إيجاد مواطئ قدم ومنافذ لها هناك.. والسعي لتقييد وتقليص النفوذين الصيني والروسي في تلك المنطقة وامتداداتها داخل إفريقيا.
ويرى مركز التقدم العربي للسياسات، أنه فيما تعوّل مصادر على سقوط الفاشر لتشجيع أطراف الصراع في السودان على التفاوض، تتخوف مصادر رسمية أمريكية من سيناريو ليبي مُكرر في هذا البلد.. وما زالت واشنطن تعوّل على السعودية ومصر والامارات داخل (رباعية) تجمعها معهم، للضغط لوقف القتال والاهتداء إلى تسوية.. وتتحدث مصادر رسمية أمريكية عن (منح أطراف الصراع الفرصة الاخيرة قبل اتخاذ إجراءات، دون توضيح لماهية تلك الاجراءات.. ويُعتقد أن واشنطن ستستمر في المحافظة على الزخم الذي أظهرته مؤخرًا من أجل تجنيب السودان الفشل ومنع التقسيم وانتشار الفوضى.. بل تسعى واشنطن لمنع الفوضى في السودان، مما يمكن داعش من التمدد في إفريقيا ويتيح للصين وروسيا وإيران من توسيع نفوذها وأجنداتها في القارة السمراء.. وترجح بعض الآراء، أن يكون اهتمام واشنطن بالسودان، لأنه جزء من السلام الشامل في المنطقة الذي وعد ترامب به كجزء من خطته لغزًة.. كما يُعتقد أن اهتمام ترامب المرجح بملف السودان، قد يعود لكون البلد موقّعًا على الاتفاقات الإبراهيمية، في وقت يَعِدُ فيه ترامب بتوسيع تلك الاتفاقات كنتيجة لخطته لغزة.
●●●
في الثامن عشر من أبريل الماضي، تناول الأستاذ عبد اللطيف المناوي، خيارات مصر الثلاثة في الحرب الأهلية السودانية، عبر مقال باللغة الإنجليزية، نشره بصحيفة Arab News، قال فيه، إنه منذ اندلاع الحرب، دعمت مصر الجيش السوداني، مدفوعةً بمخاوف استراتيجية تتعلق باستقرار الجنوب، وأمن مياه النيل، والتهديد الذي تشكله الجماعات المسلحة غير النظامية قرب حدودها الجنوبية.. إلا أن دعم مصر ظلّ غير رسمي وخفيًا، حتى بدأ حميدتي يتهم القاهرة بالتورط المباشر، حيث اتهم علنًا الجيش المصري، في أكتوبر الماضي، بشن هجمات جوية على مواقع شبه عسكرية في جبل مويا، وبتزويد الجيش بطائرات مُسيّرة وقنابل أمريكية الصنع.. وزعم أن قواته (خُدعت وقُتلت بغارات جوية مصرية).. ولاحقًا، صعّدت قوات الدعم السريع من لهجتها، مهددةً بكشف (أسرى الحرب المصريين)، واصفةً إياهم بـ (المرتزقة)، ومحذرةً من الرد.. بل إن أحد مستشاري حميدتي اقترح استهداف السد العالي في مصر، وهو تهديدٌ نذير شؤم، فسّره كثيرون على أنه رسالةٌ صاغتها جهاتٌ إقليميةٌ معادية، وخصوصًا إثيوبيا.. وعلى الرغم من النفي الرسمي من جانب وزارة الخارجية المصرية والقوات المسلحة، فإن العديد من المصادر الدبلوماسية والإعلامية الغربية، أشارت إلى أن مصر قدمت بالفعل دعمًا عسكريًا محدودًا للجيش السوداني، وخصوصًا خلال المراحل الحرجة من الصراع، وإن لم يصل الأمر إلى التدخل الكامل.
في مارس 2025، اتخذت قوات الدعم السريع خطوةً غير مسبوقة، بفرض حظرٍ على جميع الصادرات السودانية إلى مصر، من المناطق الخاضعة لسيطرة الميليشيات شبه العسكرية.. وشملت السلع المحظورة الفول السوداني، والصمغ العربي، والماشية، والذهب والمعادن، والزيوت، والحبوب، والتبغ، والذرة الرفيعة، والكركديه.. وحذرت ميليشيا الدعم السريع التجار الخاضعين لولايتها القضائية، من أن تصدير حتى (كوب واحد من الصمغ العربي) إلى مصر يُعد خيانةً، وأن أي مركبة متجهة شمالًا إلى الحدود المصرية ستُعتبر (عدوًا)، وفقًا لتحذير الميليشيات للتجار.
لم يكن هذا الحظر اقتصاديًا فحسب، بل كان رسالة سياسية.. تنظر قوات الدعم السريع الآن إلى مصر ليس فقط كداعم للجيش، بل كخصم مباشر.. ورغم أن طرق التجارة الرئيسية إلى مصر لا تزال تحت سيطرة القوات شبه العسكرية، فإن سيطرة الجيش على المناطق الزراعية الرئيسية في دارفور وكردفان، تمنحه نفوذًا على الصادرات الرئيسية الموجهة تقليديًا إلى السوق المصرية.. لكن هذا يطرح تساؤلات اقتصادية جوهرية: هل لدى حميدتي أسواق بديلة لهذه السلع؟.. من سيشتريها في ظل العزلة الإقليمية والقيود الدبلوماسية؟.. هل تمتلك قوات الدعم السريع القدرة اللوجستية لإدارة اقتصاد إقليمي في زمن الحرب؟.
تواجه القاهرة الآن سيناريو بالغ التعقيد.. ففي ساحة المعركة، يحقق الجيش تقدمًا ملحوظًا بدعم مصري، لكن الحرب لا تزال تُستنزف جميع الأطراف.. ولا تزال الميليشيات شبه العسكرية تحتفظ بحضور قوي في غرب السودان، مما يجعل تحقيق نصر عسكري شامل أمرًا بعيد المنال.. سياسيًا، شكّل حميدتي (حكومة سلام ووحدة) موازية بالشراكة مع حزب الأمة القومي، والحركة الشعبية لتحرير السودان، وقوى مدنية وقبلية مختلفة.. تتخذ الحكومة الجديدة من نيروبي مقرًا لها، وتتمتع بدستور اتحادي علماني يفصل الدين عن الدولة.. وهذا يخلق ادعاءً موازيًا بالشرعية، قد يجذب بعض القوى الإقليمية والدولية، كبديل للإدارة التي يقودها الجيش في بورتسودان، والتي تحظى بدعم قوي من مصر والسعودية.. وعلى المستوى الإقليمي، حتى التدخل غير المباشر من جانب الإمارات العربية المتحدة أو إثيوبيا، يمنح الجماعات شبه العسكرية مساحة للمناورة، في حين تتحرك مصر على خط رفيع، فلا تتدخل بشكل كامل ولا تحافظ على موقف محايد بحت.
على مصر الآن أن تختار بين ثلاث استراتيجيات رئيسية.. أولًا، دعم انتصار عسكري كامل للجيش.. يُعد هذا الخيار جذابًا لضمان حليف استراتيجي يسيطر على السودان، ولكنه يُخاطر بجر مصر إلى صراع إقليمي أوسع، إذا امتدت الحرب إلى دارفور أو ليبيا أو إثيوبيا.. ثانيًا، الدفع نحو تسوية سياسية مُعاد تصميمها.. بالاستفادة من انتصارات الجيش الأخيرة، يُمكن لمصر أن تدعو إلى تسوية تُهمّش قوات الدعم السريع عسكريًا، لكنها تسمح بتمثيل سياسي محدود لحلفائها، مما يمنع التهميش الكامل وردود الفعل الدولية.. ثالثًا، اعتماد انسحاب تدريجي.. قد تُقلص مصر مشاركتها لتقتصر على المساعدات الاستخباراتية والإنسانية، وتختار الانتظار حتى انتهاء الصراع.. لكن هذا ينطوي على خطر فقدان نفوذها لصالح جهات إقليمية أخرى، وخسارة دورها القيادي.
لم يتحقق انتصار الجيش السوداني في الخرطوم لولا الدعم المصري. إلا أنه أثار أيضًا مواجهة مفتوحة مع قوات الدعم السريع، التي باتت تعتبر القاهرة عدوًا صريحًا.. مع تغير خطوط المواجهة، وتعمق الانقسامات الداخلية السودانية، وتصاعد التدخلات الإقليمية، تجد مصر نفسها عند مفترق طرق.. عليها الآن أن تقرر: هل ستتعامل مع الصراع السوداني كأزمة حدودية مؤقتة، أم كصراع طويل الأمد على هوية السودان وسيادته ودوره في عقيدة الأمن القومي المصري؟.. قد تُشكل الإجابة مستقبل البلدين لسنوات قادمة.
حفظ الله مصر من كيد الكائدين.. آمين.









0 تعليق