في حضرة الإبداع: وجوه العشق في المشهد الثقافي المصري

الدستور 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

في المشهد الثقافي المصري، لا تبدو قصص الحب مجرد تفاصيل عاطفية تضيء هامش الحياة، بل هي جزء من نسيجها، ووشم على جسد الإبداع نفسه. ليست مجرد قصص تروى، بل احلام تشابكت مع الواقع، وتحولت إلى علامات مضيئة في مسيرة المشهد الثقافي، فلا احد منا  لا يقف عند سيرة  أمل دنقل وعبلة الرويني، وفتحية العسال وعبد الله الطوخي، وانس الوجود رضوان وصبري موسى، عن تلك القصيدة  التي كتباها بسيرتهما فكانت ابرز ومضة  في الحياة الثقافية. للتحول العلاقات بين الكتاب والفنانين الى شاركات في الرؤية والمصير. 

من عبلة الرويني وأمل دنقل، إلى صفاء عبد المنعم، ومن فتحية العسال وعبد الله الطوخي، إلى نوال السعداوي وشريف حتاتة، مرورًا بزينب العسال ومحمد جبريل، وأنس الوجود رضوان وصبري موسى — تتشكل خريطة وجدانية لمصر الإبداع، حيث يتجسد الحبّ كفعل مقاومة، وكمنبع دائم للكتابة.

686.jpeg

 

أمل دنقل وعبلة الرويني: الجنوب في حضن القصيدة

حين التقت عبلة الرويني بالشاعر أمل دنقل كانت تكتب عنه تحقيقًا صحفيًا، لكنها خرجت من عنده لتعود من بعد تكتب على قلبها سيرة عمر. كان أمل الشاعر المتمرّد، القادم من قنا بنبرة صعيدية صلبة، يواجه الموت كما واجه القهر من قبل — بشعرٍ لا يعرف التراجع. أما عبلة، فكانت الصحفية التي رأت فيه احد ايقونات الشعر الحديث وفي  قوة روحه وطنًا كاملًا.

جاء اللقاء الأول بين عبلة ودنقل، عام 1975 حيث التقته في مقهى (ريش) في بداية عملها في جريدة "الأخبار"، لإجراء حوار، حذرها البعض منه باعتبار أنه ( عصبي_وسليط_اللسان )، كما حذرها أحد المحررين السياسيين في الجريدة، من أنها ستجد صعوبة في نشر اللقاء معه، لأنه شاعر يساري.

وتضيف "عبلة"، ذقت الأمرين للعثور عليه كنت أذهب إلى المقهى الذى يرتاده، لكنه لا يأتي إلا ليلا، كما أخبرني الجرسون، واضطررت لترك رسالة، يبدو أن رقتها جعلته يتصل بي بالأخبار، على غير عادة " أمل " فقد كان حدثا كبيرا، وأعطاني موعدا في دار الأدباء بالقصر_العيني، ولم أكن أعرف أمل شخصيا، لكنه تأخر إلى أن جاء، وجلست بجواره في الصفوف الأخيرة، بعد أن طلب لى فنجانا من القهوة، كان حوارا ممتعا، حكى فيه عن ذكرياته وطفولته والشعر والرفض. تبعها عدد من اللقاءات انتهت في النهاية بالزواج، تزوجا، وكتب هو قصيدته الأخيرة بعينين تشعّان حياة. وبعد رحيله، كتبت عبلة كتابها الشهير «الجنوب»، لتخلّد قصة حبٍّ صارت أيقونة في الثقافة المصرية، حيث يلتقي الإخلاص الإنساني بالوفاء الأدبي، وحيث يصبح الحبّ مقاومة لا تقلّ عن القصيدة في شرفها.

687.jpeg

فتحية العسال وعبد الله الطوخي: العشق في مواجهة السجن

واحدة من اشهر قصص الحب في الشمهد الثقافي المصري، فلم تكن قصة الكاتبة فتحية العسال والروائي عبد الله الطوخي مجرد زواج أدبي، بل كانت حكاية تحدٍّ ضد السلطة والمجتمع في آنٍ واحد. التقيا في زمن كانت فيه الكلمة تهمة، فدفعا ثمنها من حريتهما.

جاء لقائهما في بداية الخمسينات من القرن الماضي، حيث أعجب الشاب المحامي خريج كلية الحقوق عبد الله الطوخي بتلك الفتاة الصغيرة، فتزوجها، وكان النشاط السري للحركة الشيوعية يتصاعد، ما جعل قيادة ثورة 1952 يوليو تشن عليها حملة قمع شديدة، وتعتقل رموزها.

688.jpeg

 

 سجن الطوخي بسبب انتمائه السياسي، وتعرّضت فتحية للملاحقة والمنع، لكنها لم تفقد يقينها بأن الحبّ الحقيقي هو الذي يقف في وجه القهر. واجهت العسال أول تجربة قاسية في حياتها، لكنها تخوضها بقوة وشجاعة، ومن خلالها تضع قدمها على أول طرق النضال وتحمل المسؤولية، حيث أصبحت الناطقة باسم زوجات السجناء، وعلى مدى عامين قضاهما زوجها ورفقاؤه في السجن

قالت ذات مرة: «كنا نكتب وكأننا نتنفس، ونحب كأننا نحلم بمصرٍ أجمل.» كانت شراكة بين عقلين يرفضان الانكسار، فأنجبت حوارًا فكريًا وإنسانيًا ممتدًا. ظلّت فتحية بعد رحيله تروي قصتهما كأنها تروي فصلًا من تاريخ مصر، فصلًا يتقاطع فيه العشق مع النضال.

 

689.jpeg

 

نوال السعداوي وشريف حتاتة: اتحاد العقل والجسد

حين التقت نوال السعداوي بالطبيب والكاتب شريف حتاتة، كان كلاهما يحمل جرحًا قديمًا من الحياة والسياسة. التقيا في نقطة نادرة تجمع بين الفكر الجريء والإيمان بإنسانية مطلقة. لم يكن زواجهما تقليديًا، بل شراكة عقلين حُرَّين، يؤمنان أن الحبّ فعل وعي قبل أن يكون عاطفة.

كتب شريف عنها وعن دهشتها الدائمة من العالم،  يظهر حتاتة  كظل ملازم للسعداوي مقتنعا ومساندا لأفكارها ومدافعا عنها، يرافقها في رحلتها الطويلة ضد الظلم. وحين انفصلا بعد عقود من العشرة، ظلّ الاحترام بينهما قائمًا، وكأن الحبّ بين مفكرين لا ييمحى، بل يتحول إلى صداقة فكرية تغني الذاكرة الثقافية المصرية.

690.jpeg

 

زينب العسال ومحمد جبريل: حوار الروح والورق

في حياة القاص الكبير محمد جبريل، كانت زوجته الكاتبة زينب العسال شريكة في الحلم، ورفيقة طريقٍ طويل من العطاء الأدبي. لم يكن زواجهما صاخبًا في الأضواء، لكنه كان عميقًا كالنصوص التي يكتبها جبريل عن الإسكندرية، المدينة التي تشبههما في هدوئها وحنينها.

زينب كانت تقرأ له بوعي القارئ والمحرر، وتمنحه ملاحظاتها كما يمنحها هو دعمه في مسيرتها الإبداعية. كانا يدركان أن الكتابة في بيتٍ واحدٍ تحتاج إلى صبرٍ يشبه الإيمان. وعندما رحلت زينب، كتب جبريل عنها بكلماتٍ نازفة، قائلًا: «لم تكن زوجة فقط، كانت عكازي في الحياة، وملهمتي في الصبر.»

691.jpeg

 

أنس الوجود رضوان وصبري موسى: اللقاء بين الكاميرا والقلب

في حياة السيناريست والروائي الكبير صبري موسى، دخلت الكاتبة والمخرجة أنس الوجود رضوان كضوءٍ هادئ. جمعتهما السينما والكتابة والحسّ الجمالي العميق، وامتدّ بينهما حوارٌ طويل عن الحرية والإبداع والحياة.

كانت أنس الوجود، كما وصفها صبري، «امرأة تعرف كيف ترى ما لا يرى». وكان هو بالنسبة لها النموذج الذي جمع بين الحكمة والحلم، وبين الكاتب والفيلسوف الذي يرى في الفن خلاصًا من الفوضى. ظلّت إلى جواره حتى رحيله، تحفظ ذاكرته وتكمل مشروعه الإنساني في كتابة الجمال.

في كل هذه القصص، لا يمكن الفصل بين الحب والإبداع. فالكتابة هنا ليست مهنة بل امتداد للعاطفة، والحبّ ليس نزوة بل شكلٌ من أشكال المعرفة. هؤلاء المبدعون والمبدعات لم يعيشوا قصصهم بمعزل عن نصوصهم؛ بل كان كلٌّ منهم يكتب الآخر بطريقةٍ ما — في سطر، في مشهد، في همسة حنينٍ عابرة.

كانت عبلة تكتب الجنوب كما لو تكتب روح أمل، وفتحية تكتب النضال كأنها تحرس حلم الطوخي، ونوال تُنظّر للحرية كأنها تدافع عن إنسانية حتاتة، وهكذا، تبقى هذه القصص علامات مضيئة في الذاكرة الثقافية، تذكّرنا أن وراء كل نصٍّ عظيم قلبًا خفق يومًا بصدق، وأن وراء كل مبدعٍ عاشق، امرأة أو رجلًا شاركه الحلم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق