لم يكن سعد زغلول مجرد زعيم سياسي عادي في تاريخ مصر الحديث، بل كان رمزًا للتحرر الوطني وصوتًا للجماهير التي طالما حلمت بتمثيل حقيقي وإرادة شعبية حرة، ومع تشكيله لأول حكومة شعبية في تاريخ البلاد عام 1924، تحققت لحظة فارقة في المسيرة السياسية المصرية، إذ انتقلت السلطة للمرة الأولى من أيدي القصر والاحتلال إلى قيادة منتخبة من الشعب ذاته.

من زعيم الثورة إلى قائد الحكومة
بدأت رحلة سعد زغلول نحو الحكم من قلب ثورة 1919، حين قاد حركة وطنية جمعت المصريين على اختلاف فئاتهم ضد الاحتلال البريطاني، رفع شعار “الحق فوق القوة والأمة فوق الحكومة”، واستطاع أن يجعل من الشعب المصري كتلة واحدة تطالب بالاستقلال والدستور والحرية.
كانت الثورة التي اشتعلت شرارتها من نفي سعد ورفاقه إلى مالطا نقطة التحول الكبرى في وعي المصريين السياسي، وولادة جيل جديد يؤمن بحق الوطن في تقرير مصيره.
وبعد سنوات من النضال السياسي، تأسس حزب الوفد المصري ليكون الامتداد التنظيمي لثورة 1919، حاملًا طموحات الأمة وآمالها، قاد سعد الحزب بروح ثورية وحنكة قانونية اكتسبها من خبرته كقاضي ووزير سابق، فكان يجيد مخاطبة العقول والقلوب معًا.

الانتخابات البرلمانية وانتصار الإرادة الشعبية
في يناير عام 1924، جرت أول انتخابات برلمانية في ظل دستور 1923، وهو الدستور الذي جاء ثمرة كفاح طويل ضد الحكم المطلق، دخل حزب الوفد هذه الانتخابات بشعار “الاستقلال التام أو الموت الزؤام”، وحقق فوزًا كاسحًا بحصوله على الأغلبية الساحقة في مجلس النواب، ما أكد رغبة الشعب في أن يتولى سعد زغلول مسؤولية الحكم.
ذلك الانتصار لم يكن مجرد فوز انتخابي، بل كان إعلانًا واضحًا بأن الشعب المصري أصبح شريكًا فعليًا في تقرير مصيره السياسي، بعد عقود من التبعية والاستبداد، وفي أعقاب النتائج، لم يجد الملك فؤاد الأول بدا من تكليف سعد زغلول بتشكيل الحكومة، ليصبح بذلك أول رئيس وزراء شعبي منتخب في تاريخ مصر الحديث.

برنامج الحكومة وإنجازاتها
عند توليه الحكم في 28 يناير 1924، واجه سعد زغلول تحديات جسيمة، أبرزها النفوذ البريطاني المتغلغل في شؤون الدولة، وتدخل القصر في الحياة السياسية، ومع ذلك، سعى الزعيم إلى ترسيخ مبادئ الحكم الدستوري واحترام إرادة الأمة، فبدأ بتشكيل حكومة قائمة على الكفاءة والمسؤولية الوطنية.
من أبرز إنجازاته في تلك الفترة القصيرة تعزيز استقلال القضاء، وتأكيد مبدأ سيادة القانون، وإعادة الثقة في مؤسسات الدولة، كما عمل على دعم التعليم وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية، مؤمنًا بأن النهضة لا تتحقق إلا بوعي الشعب وتثقيفه.
كما واجهت حكومته أزمة اغتيال السير لي ستاك، سردار الجيش المصري وحاكم السودان العام، في نوفمبر 1924، وهي الحادثة التي استغلها البريطانيون للضغط على الحكومة وفرض مطالب قاسية، منها سحب القوات المصرية من السودان ودفع غرامة مالية ضخمة، رفض سعد تلك الإملاءات بكل حزم، مؤكدًا أن مصر دولة ذات سيادة لا تخضع لابتزاز سياسي، لكن موقفه الصلب أدى إلى استقالة الحكومة في 24 نوفمبر 1924، بعد أقل من عام على توليها الحكم.

حكومة قصيرة العمر.. لكن خالدة الأثر
رغم قصر عمر حكومة سعد زغلول، فإنها تركت أثرًا سياسيًا عميقًا في تاريخ مصر الحديث، فقد كانت أول حكومة تأتي بإرادة الشعب، وتعبر عن آماله الحقيقية وقد رسخت لفكرة أن الحكم يجب أن يكون نتاجًا لاختيار الأمة، لا بتعيين من القصر أو المستعمر.
وباستقالة سعد، دخلت الحياة السياسية المصرية مرحلة جديدة من الصراع بين إرادة الشعب وسلطات الملك والاحتلال، لكن فكرة الحكومة الشعبية ظلت راسخة في الوجدان الوطني، وأصبحت نموذجًا يحتذى في كل المطالبات اللاحقة بالديمقراطية.

إرث الزعيم وبقاء الفكرة
لم يكن رحيل سعد زغلول عام 1927 نهاية لمسيرته، بل بداية لخلود فكره، فقد ترك خلفه مدرسة وطنية قائمة على الإيمان بالحرية والدستور والوحدة الوطنية ظل بيته “بيت الأمة”، رمزًا لتلك الروح التي جمعت المصريين على قلب واحد، كما ظل اسمه مرتبطًا بكل لحظة نهوض وطني في تاريخ مصر.
لقد أثبت سعد زغلول أن الشعب، حين يمتلك إرادته، يستطيع أن يفرض نفسه على صفحات التاريخ، وأن الحكومة التي تنبع من رحم الجماهير تظل أصدق تمثيلًا لإرادة الأمة وهكذا، خلدت حكومته الأولى في سجل التاريخ كـ أول حكومة شعبية في مصر، وأول خطوة على طريق الديمقراطية الوطنية التي حلم بها المصريون منذ قرون.

















0 تعليق