وبحسب الموقع، "بعد شهر، أصدر المصرف المركزي التعميم الأساسي رقم 170، الذي يحظر على البنوك والمؤسسات المالية التعامل مع الكيانات غير المرخصة، وهي ضربة لا لبس فيها لمؤسسة القرض الحسن، الذراع المالي الرئيسي لحزب الله. وفي تشرين الأول، أضافت وزارة الخزانة الأميركية عناصر تمويل جديدة تابعة لحزب الله إلى قوائم العقوبات الخاصة بها، متهمة إياهم بتحويل عشرات الملايين من الدولارات من إيران إلى لبنان من خلال صرافات مرخصة وغير مرخصة، وكذلك عن طريق بيع النفط الإيراني. على الورق، تبدو الاستراتيجية متماسكة: الضغط على موارد حزب الله المالية حتى تبدأ آلياته العسكرية والاجتماعية بالتوقف. أما على أرض الواقع، فالوضع أكثر تعقيداً بكثير. فتحت ضغط خارجي مكثف، بدأ لبنان في مواءمة نظامه المالي الرسمي مع المعايير الدولية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، وقد قبل إدراجه في القائمة الرمادية وخطة عمل مجموعة العمل المالي (FATF) التي ستدفع بالإصلاحات حتى عام 2026".
وتابع الموقع، "أجبر تصنيف الاتحاد الأوروبي البنوك التي تتعامل مع لبنان على تطبيق إجراءات العناية الواجبة المعززة على نطاق واسع، مما أدى إلى زيادة تكلفة وتعقيد كل عملية تحويل عبر الحدود. وأدى التعميم رقم 170 الصادر عن البنك المركزي، على الأقل رسمياً، إلى قطع العلاقات المتبقية بين المؤسسات الخاضعة للتنظيم والكيانات المرتبطة بحزب الله، ولا يُعدّ أيٌّ من هذا أمراً بسيطاً. تدرك البنوك اللبنانية أن مجرد التفكير في التعامل مع جهات فاعلة خاضعة للعقوبات أو عالية المخاطر يمكن أن يوجه ضربة قاضية لعلاقاتها الهشة أصلاً مع الجهات المراسلة. لكن هذا التضييق على النطاق المالي له حدود واضحة. الأول هو سياسي، فمعظم جهود الامتثال مصممة لتكون تكنوقراطية، إذ يمكن للبنك المركزي أن يوجه البنوك، ويوسع نطاق تبادل المعلومات، ويخفف قوانين السرية المصرفية. لا يمكن لبنان أن يعلن صراحةً حزب الله عدواً داخلياً أو أن يحلّ مؤسساته، فهذا يبقى قراراً سياسياً، ونظام تقاسم السلطة في لبنان قائم على التعايش مع حزب الله وحلفائه".
وأضاف الموقع، "أما الثاني فهو بنيوي. فمع انهيار النظام المصرفي الرسمي، تحول لبنان إلى اقتصاد نقدي. وتتزايد عمليات تداول الرواتب والإيجارات والتجارة والتحويلات المالية خارج القنوات المنظمة، وكلما شددت الدولة قبضتها على النظام الرسمي، زادت الأنشطة الحساسة التي تنتقل خارجها. المفارقة صارخة. لبنان يمتثل بشكل كامل على الورق، حتى مع تزايد النفوذ النسبي لحزب الله تحديداً حيث تكون الدولة أضعف ما تكون، في الاقتصاد غير الرسمي القائم على النقد. وكثيراً ما يُوصف حظر البنك المركزي للتعامل مع مؤسسة القرض الحسن بأنه تاريخي، وهو كذلك بالفعل من الناحية التنظيمية الضيقة. فللمرة الأولى، أبلغ البنك المركزي البنوك فعلياً أنها لا تستطيع حتى تسهيل عمل هذه المؤسسة بشكل غير مباشر، على الرغم من غموضها القانوني القائم منذ زمن طويل ودورها كشبكة أمان اجتماعي في المجتمعات الشيعية. لكن الواقعية ضرورية، فقد تخلصت معظم البنوك اللبنانية من أي مخاطر مرتبطة بحزب الله منذ سنوات، لذا فإن التأثير التشغيلي التدريجي على المنظمة محدود، والأثر الحقيقي رمزي ودبلوماسي. وتشير هذه الرسالة المتبادلة إلى واشنطن ومجموعة العمل المالي وبروكسل بأن لبنان مستعد لعزل حزب الله عن القطاع المصرفي، وفي الوقت عينه تخبر الطبقة السياسية بأن مسؤولية المؤسسات الموازية للجماعة تقع الآن على عاتقها بشكل كامل".
وبحسب الموقع، "إلى جانب ذلك، فإن نطاق التصعيد ضيق. إن تجريم أو إغلاق كيانات مثل القرض الحسن بالقوة، أو تجريدها من وضعها القانوني من خلال وزارة الداخلية، سيفسره حزب الله على الأرجح على أنه هجوم مباشر على قاعدته الاجتماعية ومشروعه الأيديولوجي. إن التعاون العلني والشفاف مع أجهزة الاستخبارات الأجنبية أو أجهزة إنفاذ القانون التي تستهدف قيادة حزب الله من شأنه أن يدفع المواجهة إلى منطقة وجودية. في الواقع، لا يزال بإمكان لبنان أن يتحرك تدريجياً، من خلال تشديد الرقابة على المعاملات النقدية، ومراقبة شركات خدمات تحويل الأموال، وحماية منصات الدفع الرقمية من سوء الاستخدام، شريطة أن يتم تأطير هذه التدابير على أنها عملية تطهير وطنية وليست حملة مدفوعة من الخارج ضد جهة فاعلة واحدة. إلا أن الهجوم المباشر على البنية التحتية المالية والاجتماعية لحزب الله من شأنه أن يؤدي إلى شلل سياسي في أحسن الأحوال، ونزاع داخلي خطير في أسوأ الأحوال".
وتابع الموقع، "تهدف العقوبات الأميركية التي تستهدف عناصر حزب الله وشبكات تهريب النفط والصرافات المرتبطة بها إلى قطع وصولهم إلى النظام المالي العالمي. ومن وجهة نظر واشنطن، يُعدّ هذا ضغطاً مُوجّهاً. انطلاقاً من بيروت، ولا سيما بعد إدراجها على القائمة الرمادية لمجموعة العمل المالي (FATF) وتصنيفها من قبل الاتحاد الأوروبي ضمن الدول عالية المخاطر، بات الخط الفاصل بين الضغط "المستهدف" والضغط "المنهجي" غير واضح. فكل تصنيف جديد يزيد من قلق البنوك المراسلة بشأن لبنان ككل، ويشجع على الامتثال المفرط، ويزيد من تعقيد العمليات الإنسانية. وتواجه المنظمات غير الحكومية بالفعل صعوبة في إيصال الأموال إلى البلاد دون تأخير أو رفض. المفارقة قاسية: فالتدابير المصممة لإضعاف حزب الله غالباً ما تنتهي بمعاقبة صغار المستوردين والطلاب وجماعات الإغاثة والعائلات التي تحاول ببساطة الصمود أو الهروب. هذا لا يدعو إلى التخلي عن العقوبات، بل يدعو إلى ربطها باستثناءات مصممة بعناية ومساعدة فنية مستدامة لضمان استمرار وصول حد أدنى من الدعم المالي إلى الجهات الفاعلة اللبنانية المشروعة".
وأضاف الموقع، "تشير الأدلة حتى الآن إلى أن الضغوط المالية تضر بحزب الله، لكنها لا تشلّه. ويعزو المسؤولون الغربيون والإسرائيليون ذلك إلى تشديد الوصول إلى الدولارات "النظيفة"، وتأخيرات وتخفيضات في رواتب المقاتلين، وتزايد صعوبة تمويل العمليات الخارجية أو إعادة الإعمار على نطاق واسع. في الوقت عينه تكيف حزب الله، فقد اعتمد بشكل أكبر على الدعم الإيراني المقدم نقداً ونفطاً وبضائع بدلاً من التحويلات المصرفية، ووسع نطاق التهريب والتجارة عبر الحدود، وعمق استخدامه لشبكات الحوالة ومكاتب الصرافة التي تعمل على الأنظمة المرخصة وغير المرخصة، وزاد من تجاربه مع منصات الدفع الرقمية. وقد وثقت التحقيقات قيام جمعيات خيرية مرتبطة بحزب الله بجمع التبرعات من خلال محافظ إلكترونية مسجلة بأسماء خاصة على تطبيقات لبنانية متصلة بشبكات الدفع العالمية. وفي ظل هذه الظروف، لا يزال بإمكان الضغط الإضافي أن يرفع التكاليف، ويبطئ العمليات، ويؤدي تدريجياً إلى تآكل آلة المحسوبية التي كانت تدعم صورة حزب الله كدولة داخل الدولة، لكن طالما بقيت إيران مستعدة لتمويلها، وطالما بقي لبنان ممزقاً، يعتمد على النقد، ويعاني من ضعف الحكم على حدوده، فإن الأدوات المالية وحدها لن تفكك القدرة العسكرية للحزب. إن الحرب المالية تُضعف، لكنها لا تحسم الأمور".
وبحسب الموقع، "هناك حقيقة أخرى أكثر إزعاجاً، فالنظام البيئي المبهم نفسه الذي يحمي تمويل حزب الله يحمي أيضاً النظام السياسي والاقتصادي الفاسد الأوسع نطاقاً في لبنان. إن الإصلاحات التي طالبت بها مجموعة العمل المالي (FATF) والاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي لن تقتصر على تقييد حزب الله فحسب، بل ستكشف أيضاً شبكات من السياسيين ورجال الأعمال والمصرفيين الذين ازدهروا طويلاً في ظل السرية. لهذا السبب، فإن التقدم متعثر ويُنفذ بشكل انتقائي، ويُعاد صياغته باستمرار على أنه خضوع لإملاءات خارجية. ويكمن الخطر في أن لبنان يكتفي بالحد الأدنى من الإجراءات الشكلية مع الحفاظ على هياكل المحسوبية والإفلات من العقاب. في هذا السياق، يحتفظ حزب الله بهامش للمناورة. فكل قاعدة جديدة تُصبح عقبة أخرى يجب تجاوزها، ووسيطاً آخر يجب تجنيده، وطبقة أخرى من الغموض، ويصبح الحزب أكثر مرونة، وأكثر تركيزاً على المعاملات، وأقل سخاءً، لكنه لا يختفي".
ورأى الموقع أنه "يجب أن تبدأ أي استراتيجية نزيهة، من جانب السلطات اللبنانية والشركاء الدوليين على حد سواء، بالاعتراف بثلاث حقائق. أولاً، لن يتم حلّ حزب الله بالعقوبات أو بتعميمات البنك المركزي، والهدف الواقعي هو احتواء نفوذه المالي وتضييقه تدريجياً، لا سيما في المجالات التي يتقاطع فيها مع الأسواق العالمية. ثانيًا، لا يمكن أن يبقى سكان لبنان ضحايا جانبيين إلى أجل غير مسمى، فإدراج لبنان في القائمة الرمادية، وتصنيفه ضمن الدول العالية المخاطر، وفرض عقوبات متجددة، كلها أمور تفرض تكاليف إنسانية وتنموية باهظة. ثالثًا، يجب أن يكون الإصلاح لبنانيًا أصيلًا وشاملًا حقًا. فإذا ما تم تصوير الإصلاح المالي كحملة ضد حزب الله مع بقاء الجهات الفاعلة الأخرى ذات الصلة السياسية بمنأى عن المساس، فسيفشل فشلًا ذريعًا أخلاقيًا وعمليًا. يجب أن تستهدف أي استراتيجية فعّالة مكافحة الفساد على نطاق واسع، وأن تعزز المؤسسات وأن تعيد بناء الثقة بأن سيادة القانون ضرورة وطنية، وليست فرضًا أجنبيًا".
وختم الموقع، "سيظل لبنان على خط المواجهة في حرب مالية غالباً ما يكون فيها أفقر المواطنين هم من يدفعون الثمن".



0 تعليق