تواجه أوروبا اختباراً حاسماً لطموحاتها في التحول إلى قوة جيواقتصادية مستقلة، بعد تعثر توقيع اتفاقية التجارة الحرة بين الاتحاد الأوروبي وتكتل “ميركوسور”، في خطوة تعكس عمق الانقسامات الداخلية وتحديات الخروج من النظام التجاري العالمي الذي تشكل خلال حقبة الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
كان من المفترض أن تمثل الاتفاقية، التي تُعد الأكبر في تاريخ الاتحاد الأوروبي، نقطة تحول استراتيجية تعزز استقلال أوروبا التجاري عن الولايات المتحدة والصين، غير أن الخلافات السياسية والضغوط الداخلية، خصوصاً من القطاع الزراعي، أعادت الصفقة إلى مربع التأجيل.
رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين اضطرت إلى البحث عن دعم في اللحظات الأخيرة، في ظل موقف متحفظ من دول محورية أبرزها إيطاليا، التي ترى أن الاتفاق قد يُلحق أضراراً بالغة بمزارعيها، وهو ما أدى مجدداً إلى تعطيل التوقيع الرسمي.
ويمثل هذا التأخير ضربة رمزية وسياسية لبروكسل، خاصة أن مفاوضات الاتفاق مع الأرجنتين والبرازيل وأوروغواي وباراغواي امتدت لأكثر من 25 عاماً، ما أثار استياء دول أمريكا الجنوبية التي بدأت تفقد ثقتها بقدرة الاتحاد الأوروبي على اتخاذ قرارات حاسمة. وقد عبّر الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا بوضوح عن هذا الإحباط، مؤكداً أن “الوقت حان الآن أو قد لا يأتي أبداً”.
طموح الاستقلال الأوروبي تحت الضغط
يرى قادة الاتحاد الأوروبي أن اتفاق ميركوسور يشكل أداة استراتيجية لتخفيف الاعتماد على الصين والولايات المتحدة، في وقت تتصاعد فيه التوترات التجارية مع الطرفين، سواء بسبب الرسوم الجمركية أو القيود على سلاسل الإمداد والمعادن الحيوية.
الاتفاق، في حال إقراره، سيخلق سوقاً موحدة تضم نحو 780 مليون مستهلك، ويوفر فرصاً واسعة للصادرات الأوروبية، خاصة في قطاعات السيارات والصناعة والخدمات، إضافة إلى تعزيز أمن سلاسل التوريد الأوروبية خارج النفوذ الأميركي والصيني.
غير أن المعارضة الداخلية، خصوصاً من المزارعين الأوروبيين الذين يخشون المنافسة غير المتكافئة، ما زالت تشكل العائق الأكبر. وقد تجلّى ذلك في احتجاجات واسعة شهدتها بروكسل، عكست حجم القلق الاجتماعي من تداعيات تحرير التجارة.
مخاطر جيوسياسية واقتصادية
يحذر محللون من أن فشل الاتحاد الأوروبي في تمرير اتفاق ميركوسور لن يكون مجرد خسارة اقتصادية، بل انتكاسة جيوسياسية تقلل من مصداقية أوروبا كشريك تجاري عالمي موثوق. فالدول الناشئة تراقب عن كثب قدرة بروكسل على تنفيذ التزاماتها، في وقت تتجه فيه دول أميركا الجنوبية إلى توسيع شراكاتها مع قوى أخرى مثل الإمارات وكندا واليابان.
في المقابل، لا يزال قادة أوروبيون يعولون على إمكانية إحياء الاتفاق خلال يناير، معتبرين أن تأجيلاً إضافياً قد يكون مقبولاً مقارنة بعقود من التفاوض، لكنهم يدركون أن نافذة الفرصة تضيق سريعاً.
وفي ظل نظام عالمي يتسم بالحمائية والتنافس الحاد، يبدو أن تعثر اتفاق ميركوسور يعكس معضلة أعمق: هل يستطيع الاتحاد الأوروبي تجاوز حساباته الداخلية ليصبح لاعباً مستقلاً في التجارة العالمية، أم سيبقى أسير التوازنات السياسية والضغوط المحلية؟















0 تعليق