على مدار سنوات طويلة، ظللت أكتب وأنبّه وأحذّر.. عشرات المقالات والنداءات وجّهتها إلى المسؤولين في محافظة المنيا، وإلى مركز سمالوط على وجه الخصوص، آملًا أن يسمع أحدهم ويعي خطورة ما يحدث، لا باعتباره مجرد ازدحام مروري عابر، بل ككارثة اجتماعية وثقافية واقتصادية تحيط بالمجتمع من كل جانب. ومع تعاقب المحافظين ورؤساء المدن—أسبق وسابق وحالي وربما قادم—لم تتغير الأرض إلا في مظاهر شكلية لا تمس جوهر المشكلة، حتى تحولت الأزمة إلى واقع مرير يكاد يكون خارج السيطرة، يفرض نفسه على كل شارع، وكل حي، وكل بيت.
إن منظر شوارع سمالوط اليوم صادم بكل المقاييس: بحر متلاطم من مركبات التوك توك يملأ المدينة شرقًا وغربًا، في الطرقات والقرى، بلا نظام، بلا تراخيص، بلا لوحات، بلا ملصقات مرورية، بلا أي هوية. أطفال يقودون هذه المركبات دون سن قانونية، وشباب يبحثون عن ربح سريع على حساب السلامة العامة، في حين يجد المواطن نفسه معرضًا في كل لحظة لمخاطر جسيمة. السير بسيارة ملاكي أو حتى أجرة أصبح مخاطرة حقيقية، والحوادث التي تحدث ليست مجرد أرقام، بل قصص حياة تُفقد أناسًا أعزاء بلا معنى، أمام سائق صغير لا يعرف القانون، ولا جهة تراقبه، ولا منظومة تفرض عليه الانضباط.
تلك المركبة ليست مجرد وسيلة نقل عشوائية، بل كيان يضرب في جذور المجتمع، يهدم الثقافة الإنتاجية، ويحوّل الشباب من التعليم والعمل إلى عالم من الاتكالية والكسل، ويقود البعض إلى الانزلاق في أعمال منافية للآداب أو نقل مواد مخدرة، لتصبح أداة تدمير للأجيال. وهذه الظاهرة ليست وليدة اللحظة، بل نتاج أزمات اقتصادية وتعليمية عميقة: بطالة واسعة فرضها قانون المالك والمستأجر عام 1996، وانفصال التعليم عن متطلبات سوق العمل، فتخرج أجيال بلا مهارة، بلا مهنة، بلا مستقبل، ويصبح التوك توك هو المنفذ الوحيد للبحث عن دخل سريع، بينما تتحطم منظومة الإنتاج والثقافة العملية.
لقد طرحت الحلول العملية عبر السنوات، وأعيد اليوم تقديمها بوضوح: تقنين عدد مركبات التوك توك بما يتناسب مع عدد السكان والكثافة العمرانية، ترخيصها وربطها بالسائقين الحاصلين على رخصة قيادة، تغيير شكل المركبة لتكون أكثر أمانًا واحترامًا للمظهر الحضاري، حصرها في الطرق الداخلية وعدم السماح لها في الشوارع الرئيسية، تخصيص مواقف رسمية على أطراف المدينة للحد من انتشارها العشوائي، وإنشاء منصة إلكترونية باسم "توكتوك سمالوط" لطلب المركبات وتنظيم حركتها بشكل مدروس، لتصبح وسيلة نقل خاضعة للرقابة، وتدمج التقنية الحديثة بالضبط الحضاري، حتى لو تطلب ذلك بعض الوقت لتنفيذ البنود السابقة.
والحل الاستراتيجي الأهم، والذي يعالج جذور المشكلة، هو إنشاء مركز تدريب مهني عصري في مركز سمالوط، يحتوي على جميع المهن المطلوبة في سوق العمل، يمنح المتدرب شهادة خبرة بعد اجتياز التدريب النظري والعملي، ويربطه بعقود تعاون مع وزارة العمل والشركات والمصانع والمشروعات الاستثمارية لتوفير فرص عمل حقيقية، بما يخلق جيلًا منتجًا ماهرًا قادرًا على المساهمة في بناء الوطن، ولا مانع أن يشارك القطاع الخاص في هذا المشروع تحت إشراف الدولة.
أعيد هذا النداء اليوم بصوت أعلى وأوضح، لأن مركز سمالوط لم يعد يحتمل التأجيل، ولا يمكن للمسؤولين الاستمرار في صمتهم، بينما تزداد المخاطر يومًا بعد يوم. إن التدخل الجاد والمنظم سيعيد الانضباط إلى الشوارع، يحمي أرواح المواطنين، ويعيد للمدينة قيمها الحضارية، ويخلق بيئة عمل وإنتاج حقيقية. هذه المقالة ليست مجرد نقد، بل صرخة وطنية، دعوة لإعادة الحق إلى أهله، وفرصة لإصلاح مجتمع بأسره، قبل أن تتحول الأزمة إلى كارثة لا عودة منها.









0 تعليق