على هامش الدورة السادسة والأربعين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي، والتي كرّمت المخرج التركي نوري بيلجي جيلان واختارته رئيسًا للجنة تحكيم المسابقة الدولية، استمتع الجمهور بمحاضرته القيمة بعنوان "انعكاسات سينمائية: رحلة في عوالم نوري بيلجي جيلان".
يتميز جيلان بأسلوبه السينمائي المتأني والواقعي، الغني بالصور الشعرية ذات العمق الفلسفي، وقدرته الاستثنائية على رصد التفاصيل الدقيقة للوجود الإنساني. في المحاضرة التي أدارها الناقد أحمد شوقي، كشف جيلان عن منهجيته الإبداعية، والتي ترتكز على دعامتين رئيسيتين: خلفيته كمصور فوتوغرافي، والتأثير العميق لأعمال الأدباء الكبار، خاصة تشيخوف ودوستويفسكي.
جذور الفوتوغرافيا والتحول إلى السينما
بدأ جيلان مسيرته الفنية بالتصوير الفوتوغرافي، وهو ما ناسب شخصيته الانطوائية في سن الخامسة عشرة. كان يرى التصوير نشاطًا فرديًا لا يتطلب التواصل مع الآخرين، مما جعله بعيدًا عن فكرة صناعة الأفلام التي تتطلب الكثير من الأشخاص.
لكن عند بلوغه الخامسة والعشرين، بدأ شغفه بالسينما ينمو، مشروطًا بالحاجة إلى فرق عمل صغيرة جدًا. بدأ تجربته الأولى بتصوير فيلم قصير بمفرده، مستخدمًا كاميرا 35 مم، لتصوير عائلته والبيئة الريفية "بطريقة فوتوغرافية فقط" ودون سيناريو مكتوب.
سرعان ما أدرك حاجته لمساعد لضبط البؤرة، فتقلص العمل ليصبح مع شخص واحد. كان يحرص على كتابة السيناريو بما يتناسب مع إمكانياته المحدودة، ثم توسع طاقم عمله تدريجيًا إلى خمسة أشخاص، ليصل اليوم إلى ما بين 50 و60 فردًا. يرى جيلان أن المخرج يجب أن يكتب دائمًا ضمن إمكانياته المتاحة وإلا كان "أحمق".
تطور الأسلوب والبحث الفلسفي
أدى هذا التحول من صانع أفلام مستقل إلى مخرج يقود إنتاجات ضخمة إلى تطور شخصي وفني. ورغم أن وضعه الحالي يمنحه حرية أكبر في الكتابة، يعترف جيلان بأنه كمشاهد، ما زال يفضل الأفلام ذات الطاقم الصغير والقصص البسيطة.
ومع ذلك، لم يتمكن من منع نفسه من كتابة نصوص أكثر تعقيدًا تتناول أفكارًا فلسفية بحتة في أفلامه الأخيرة. هذا السعي هو المحرك الحقيقي له؛ فالقصة بحد ذاتها لا تثير اهتمامه، بل الأسئلة الصعبة والمجهولة الإجابة هي ما يدفعه للخوض في هذا المجال، معتبرًا هذا البحث بمثابة "العلاج النفسي" الخاص به.
يصف جيلان عملية الإبداع لديه بأنها تبدأ دائمًا بيأس شديد بعد كل فيلم، حيث يعتقد أنه لن يصنع المزيد. لكن الفكرة تتبلور لاحقًا بطريقة تشبه "النهر الجارف"، حيث تتجمع "جداول صغيرة" من مصادر متفرقة.
هو ليس من المخرجين الذين يمتلكون مشاريع جاهزة، بل يجد دعمًا كبيرًا في زوجته التي تشاركه الكتابة والمناقشات، وتأتي أحيانًا بأفكار جديدة. هذه الشراكة ضرورية، لا سيما في مرحلة الحوار التي تثير "المعارك" بينهما، ولكنه يرى هذا الصراع حول النص أمرًا مفيدًا للغاية.
الحوار والممثلون.. تحدٍ جديد
شهد أسلوب جيلان تحولًا في استخدام الحوار والتعامل مع الممثلين. في البداية، كان يميل إلى تقليل الحوار خوفًا منه، خاصة عند العمل مع هواة. لكن بالعمل مع المحترفين، أصبح الحوار أداة رئيسية، واصفًا هذا التحول بأنه كان تحديًا شخصيًا: "هل أستطيع جعل هذا الحوار الطويل ناجحًا؟".
لذا، أصبح يفضل الممثلين المحترفين في أفلامه الأخيرة لقدرتهم على حفظ وإتقان الحوارات الدقيقة دون تغيير، مما يحافظ على النص المكتوب. رغم ذلك، ما زال يرى للهواة دورًا مهمًا في الأدوار الصغيرة، مشيرًا إلى أنهم يوفرون "ملايين الوجوه" المختلفة، على غرار ما فعله فيليني وبريسون، مؤكدًا أن اختيار الممثلين يمثل نصف العملية الإخراجية.
ثنائية المناخ والإذلال
تظهر في سينما جيلان عناصر بصرية وموضوعية متكررة. أولها هو "المناخ"؛ فالفصول والأحوال الجوية، كالثلوج، تؤثر عليه شخصيًا وتذكره بالطفولة. يرى في المناخ عنصرًا قويًا لمواكبة الحالة النفسية للشخصيات.
كما يحب استخدام التناقض، حيث تبدو المأساة أكثر عمقًا عندما تقع في فصل الصيف. أما العنصر الثاني المتكرر فهو "الإذلال"، الذي يراه من أقوى المشاعر، وربما نابعًا من خوفه الشخصي منه. يستخدم جيلان الإذلال لاختبار الشخصيات، معتقدًا أن المرء لا يكتشف حقيقة نفسه إلا تحت وطأة الإهانة، فـ "لا أحد يعرف نفسه دون أن يختبر الإذلال" وفقدان القدرة على السيطرة وحماية الذات.
في الختام، يؤكد جيلان على الأهمية القصوى للأدب، فهو "من أكثر الأمور فائدة" لصانع الأفلام. يخص بالذكر "تشيخوف" الذي يجده الأنسب للسينما، معترفًا بأن تفاصيل من قصصه تتسرب إلى أفلامه بشكل غير واعٍ. كما يرى في "دوستويفسكي" وحواراته الطويلة دافعًا لتجربته في إطالة وتعميق الحوارات في أعماله الأخيرة.












0 تعليق