وُلد في داخلي منذ عامين، أثناء دراستي لما يُعرف بـ«أدب اللاجئين» تساؤل لم يهدأ. فلم أكن أتوقع أن تلك الدراسة ستفتح لي نافذة على أوسع جرح في العالم؛ جرح لا يُرى على الخرائط لكنه يتسع كل يوم. ولمن لا يعرف هذا المصطلح هو صرخات أدبية تمثلت فى نصوص درامية وروائية لكتاب لاجئين واجهوا شعور ضياع الوطن وتمزق الهوية عالقين بين أرض تطردهم.. وأرض ترفضهم.. فوجدوا أنفسهم أصواتًا صامتة تحددت إقامتها بملجأ حدودى ربما على حدود فرنسا بينما البعض الأخر على حدود بريطانيا. وعلى سبيل المثال لا الحصر لتلك الأصوات المصمتة بفعل فاعل والتي لا يمكن حصرها ولا إسكاتها ارتفعت صرخات كُتاب اللاجئين من مخيم ناورو بأستراليا، ذلك الجحيم المحاصر على حدود ما يُسمى بجنة الأرض. ثم دوى صداها في مخيم موريا باليونان الذي احترق عام 2020، وامتد إلى مخيمات فنزويلا على حدود كولومبيا، وتعالى في مخيمات الروهينجيا ببنجلاديش، وصولًا إلى كاكوما في كينيا ولا أخفيكم سرا عن مخيم كاكوما الذي يجمع لاجئين من السودان والكونغو وإثيوبيا والصومال. تتعدد الجنسيات، لكن الصرخة واحدة والمصير واحد: مصير لا إنساني يواجهه ملايين البشر.. وهنا تأتي التساؤلات: هل أزمة اللاجئين قدر لا مفر منه؟ ما أسباب تفاقمها حتى أصبحت خطرًا يهدد القاصي والداني؟ من يتحمل مسئولية مصير هؤلاء البشر، مهما كانت جنسياتهم أو دياناتهم؟ هل يستعيد العالم إنسانيته قبل أن يتحول إلى مخيم كبير بلا أبواب؟ وإلى أي مدى يواصل المجتمع الدولي تجاهل هذه الكارثة؟ وهل يمكن يومًا ما أن يكون هناك حل؟.
مصر حالة فريدة
وزادت التساؤلات بداخلي كفتاة مصرية وأنا أتجول بشارع الأزهر وأجد جنسيات متعددة حولي يحيون وكأن الدرب دربهم وبينما أنا أشتري بعض الأشياء أجد التاجر سوريًا ويذكر لى أنه أصبح من أكبر تجار الأزهر أو من حيتان الأزهر على حد تعبيره.. وهنا أتساءل لماذ لم نشهد فى مصر وهي من أكبر الدول المستقبلة للاجئين مثل تلك المخيمات؟.. فوفقًا لإحصائية المفوضية السامية لشئون اللاجئين، فى مصر حوالي 1069155 لاجئا من 61 جنسية ونحن نعي جيدًا أن هذا الرقم لا يمثل الواقع بل فقط يعبر عن من هم مسجلون رسميًا ولكن الواقع يتجسد فى تصريحات الحكومة المصرية والتى أعلنت أن على أرض مصر من 9 إلى 10 مليون لاجيء وملتمس لجوء ومهاجر من 62 جنسية بحلول يونيو 2025 وهو ما يمثل حوالي 10% من نسبة السكان المحليين.
فهل مصر حالة فريدة لا ندركها جيدًا لأننا اعتدنا أن نستقبل العديد من الجنسيات والثقافات على أرضنا ونتعايش معهم بمحبة وألفة؟!.. أم أن خطورة تزايد الأعداد ناقوس خطر لم نتداركه بعد؟! وكيف تستوعب مصر تلك الأعداد؟! وهل هناك إمكانية لإستقبال المزيد مع تصاعد الصراعات بدول الجوار أم أن البنية التحتية والخدمات المقدمة لهم ستتأثر بذلك؟ وما تأثير هذه الأعداد على أمننا القومي؟ وهل ستتأثر هويتنا المصرية بهذا الانصهار المجتمعي؟
ما بين كوني إنسانة تتعاطف مع بشر جردتهم السياسات الغربية، والأزمات المناخية، والصراعات الطائفية من أوطانهم، وكوني كاتبة تدرك حجم ما تصنعه كتابات الأدباء اللاجئين من أثر عميق على الرأي العام العالمي، وكوني مواطنة مصرية ينبض وجدانها بحب هذا الوطن وحرصها عليه، قررت أن أبدأ رحلة بحث نتجول فيها سويًا بخارطة العالم كي نصل معًا لجذور المشكلة ونفكر سويًا فى الحل ونعي جيدًا المخاطر ونحلم معًا بعالم خالٍ من المخيمات.
تتكون رحلتنا من 6 محطات، تحل كل محطة جزءًا من اللغز وتجيب عن العديد من التساؤلات لنصل لوعي شامل بأزمة اللاجئين حول العالم وندرك جيدًا أين مصر من هذة الأزمة؟ وكيف تتعامل الحكومة معها؟ وما يجب فعله مستقبلاً لمواجهة تحديات الأزمة؟.
جذور أزمة التشرد
تبدأ أولي محطاتنا بالذهاب إلى جذور الأزمة؟ ومنذ متي وبدأ العالم يشهد على تشرد البشر وبحثهم عن مأوي بديل للوطن يحيون فيه بأمان؟.. سنجد أن ظاهرة اللجوء جاءت كجزء من التاريخ الإنساني فى العصور القديمة بسبب الصراعات القبلية وامتدت للقرون الوسطي التى تميزت بهروب أقليات دينية إلى أن جاءت نقطة التحول الكبري حيث أسفرت الحرب العالمية الأولى والثانية عن موجات لأعداد هائلة من اللاجئين لم يشهدها التاريخ الإنساني من قبل. ونظرًا لغياب المؤسسات الدولية وقتها، لا يتواجد سجل لعدد محدد، ولكن المؤرخين اتفقوا على أن الأعداد تراوحت من 7 إلى 10 ملايين لاجئ ومشرد.. وهنا أدرك العالم أنه أمام كارثة إنسانية تتطلب إنشاء نظام دولي حديث تمثل فى منظمة دولية للاجئين عام 1946 (IRO) والتي كانت أول جهاز يساعد اللاجئين وجاءت إتفاقية جينيف للاجئين 1951 كميلاد حقيقي لإعتراف المجتمع الدولي بوجود أزمة إنسانية ولكنها مع الأسف كانت إتفاقية أروبية التركيز ولم يتمكن الإدراك الدولي للأزمة من حلها بل تفاقمت على مستوى العالم وجاء بروتوكول 1967 ليلغي القيود الزمنية والجفرافية، وهو مؤشرخطير إلي اتساع رقعة الأزمة. ولم يتوقف الأمر هنا بل تميزت الفترة من 1955 إلى 1991 بالحرب بالوكالة والصراعات التي نتج عنها ارتفاع موجات اللاجئين ليصل بنا الحال اليوم وحوالى 1.5% من سكان العالم مجبرون على النزوح قسرياً وجاء أكثرهم من فيتنام والسلفادور، وأيضا تفاقم الأمر فى القارة السمراء بسبب حروب التحرر بأنجولا وإثيوبيا وموزمبيق.
وتصاعدت الأعداد أكثر فأكثر فى الفترة من 1991-2010 فى ظل الإبادة الجماعية التى حدثت برواندا والإنفصالات التى ضربت الكونغو والسودان والصومال. وهنا بدأ التصاعد المتسارع ينبىء بكارثة إنسانية خاصةً فى قارة أفريقيا ومنطقة الشرق الأوسط حيث انفجرت الأزمة إثر حدوث ما عرف بالربيع العربي 2011 ولكنه سرعان ما تحول إلى خريف عاصف دمر العراق وولد أكثر من 6 ملايين لاجيء سوري وحوّل ليبيا إلى أرض الميليشيات وما أدراك ما يحدث بالسودان ودارفور ولم يكن باقي العالم أيضا بمنأى عن هذا فنتج عن حرب أوكرانيا 2022 أعداد هائلة من اللاجئين.. وهنا أصبح العالم أمام كابوس إنساني حيث تشرد 40 مليون إنسان حول العالم بحلول عام 2010 وتفاقم عددهم ليصل 120 مليون إنسان بين لاجئين ونازحين بحلول أبريل 2025 وفقًا لإحصائية منظمة الأمم المتحدة.. هذا الرقم المفجع يجعلنا نقف لنسأل أنفسنا ما هي نهاية هذا المصير المجهول وما الأسباب وراء تشرد ملايين البشر؟!.
شرور التدخل الغربى
وهنا سنجد أن أولي الأسباب المباشرة هى التدخل الغربي والسياسات الأمريكية بالشرق الأوسط وأفريقيا.. تدخل أودى بنا لجحيم وأزمة إنسانية إنقلب فيها السحر على الساحر وهددت أول ما هددت حدود الدول الأوربية الداعمة لتلك السياسات بعدما أدى هذا التدخل لإحداث إنقسامات داخلية وانهيار حكومات وتدمير دول مثال اليمن والسودان وليبيا والكونغو وكان السبب المعلن بالأبواق الإعلامية الدولية وفقًا لأجندات جماعات المصالح هو "الحروب الأهلية".
ويأتي الفقر المدقع كنتيجة طبيعية للصراعات ليضرب تشاد والنيجر مما يدفع آلاف البشر للبحث عن الحد الأدني للحياة الإنسانية فى مكان آخر ويزداد المشهد سوءًا بالعنف العرقي والطائفي مثال الروهينجيا ومسلمى أفريقيا الوسطي والعنف القبلي بدول الساحل الإفريقي. ويكتمل المشهد المأساوي بأيادي الرأسمالية التى خربت الطبيعة مما يضعنا أمام مواجهة تغيرات مناخية تسفر عن المزيد والمزيد من اللاجئين حيث بلغ عدد النازحين بسبب التغيرات المناخية وفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين حوالي 250 مليون شخص نزحوا داخليًا على مدى السنوات العشر الأخيرة بسبب الكوارث المرتبطة بالمناخ.
فيضرب الجفاف الصومال وتشاد، وتطيح الفيضانات بباكستان عام 2022، ويرتفع مستوى البحر مهددًا بنجلاديش وجزر المحيط الهادئ.. ورغم هذا كله، لا يزال القانون الدولي يرفض الاعتراف بـ«لاجئ المناخ» لصالح جماعات المصالح، في واحدة من أكثر المهازل الإنسانية فجاجة. هذا التجاهل دفع كُتاب اللاجئين حول العالم إلى رفع المصطلح عاليًا في نصوصهم الدرامية، كصرخة تُدين عجز النظام الدولي عن استيعاب ضحايا المناخ، وتراجع الدول الكبرى عن تمويل مشروعات مكافحة التغير المناخي، وكأن العالم يصر على تجاهل الكارثة وهو يشاهدها تكبر أمام عينيه.
مأساة عالمية ولامبالاة دولية
وهكذا نجد أنفسنا أمام أزمة لم تعد مجرد أرقام تتصاعد أو خرائط تتلون، بل أمام جرح إنساني مفتوح يُعاد نزفه كل يوم. أزمة صنعتها الحروب، وغذتها السياسات، وأشعلتها التغيرات المناخية، ورسختها اللامبالاة الدولية. ومع ذلك، فإن ما يهمنا —نحن المصريين— ليس فقط فهم حجم المأساة العالمية، بل فهم موقع مصر من هذه العاصفة، وكيف استطاعت أن تكون استثناءً إنسانيًا وسط عالم يشيد الأسلاك الشائكة والجدران.
وفي المقال التالى، نغوص في المحطة التالية من رحلتنا: أسباب تفاقم الأزمة عالميًا، وكيف تشكّلت موجات اللجوء الحديثة؟ لننتقل بعدها إلى السؤال الأعمق: كيف واجهت مصر هذا السيل البشري؟ وهل تستطيع الاستمرار؟.. رحلة الوعي لم تنته، إنها تبدأ الآن.
*باحثة فى الإعلام السياسي







0 تعليق