الحفاظ على ألوان الأبيض والأسود للأفلام الكلاسيكية يحمي أصالة السينما المصرية
المهرجان منصة للحفاظ على التراث وعرض الأفلام المرممة بجودة عالية للأجيال الجديدة
نجحنا في تخطى تحديات كثيرة في تنظيم الدورة الـ 46 من مهرجان القاهرة السينمائي
في بهو دار الأوبرا المصرية، حيث تمتزج أضواء السجادة الحمراء بنبض صالات العرض، يقف الفنان الكبير حسين فهمي كعادته، ثابتًا بهدوئه وابتسامته الواثقة، كأنه حارس أصيل لذاكرة السينما العربية، في الدورة الـ46 من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، بدأ رئيس المهرجان أكثر نشاطًا وإصرارًا على تقديم موسم استثنائي يليق بتاريخ السينما المصرية ورموزها، واضعًا على عاتقه مهمة لا تقل أهمية عن إدارة المهرجان نفسه، وهي استعادة تراثنا السينمائي عبر مشروع الترميم الرقمي للأفلام القديمة.
منذ اللحظات الأولى لحفل الافتتاح، لفت حسين فهمي الأنظار بحضوره الدافئ واستقباله لنجوم السينما من مصر والوطن العربي والعالم، ورغبته الواضحة في أن يكون المهرجان مساحة تجمع بين الفن والذكريات، وبين التطوير واحترام التاريخ، صافح الضيوف بابتسامته الشهيرة، تبادل كلمات الترحيب مع زملائه الذين حرصوا على مشاركته هذا الحدث الذي يعدّ واحدًا من أعرق المهرجانات في المنطقة.
وفي خضم صخب الافتتاح وأضواء الإعلام، ظل حديثه الأكثر تأثيرًا ذلك الذي دار حول مشروع الترميم الرقمي للأفلام المصرية، والذي يعتبره حسين فهمي «دينًا واجبًا على كل مهتم بتاريخ السينما».
حيث كانت بالنسبة له، ليست الأفلام مجرد شرائط قديمة، بل ذاكرة أجيال وتاريخ مجتمع عاشته الكاميرا وخلّده الفن، يؤمن أن بقاء هذه الأعمال هو مسئولية مشتركة، وأن ترميمها رقميًا هو السبيل الوحيد لضمان وصولها للأجيال الجديدة كما رآها الجمهور خلال زمنها الذهبي.
في حوار خاص لـ "البوابة" تحدث الفنان حسين فهمي رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي عن التحديات التي واجهته في هذه الدورة بدءًا من اختيار الأفلام المشاركة مرورًا بتنظيم فعاليات المهرجان والاهتمام الخاص بترميم الأفلام المصرية. وإلي نص الحوار..
*كيف ترى ملامح الدورة الـ 46 من مهرجان القاهرة السينمائي ؟ وما الذي يميزها عن الدورات السابقة ؟
-هذه الدورة من مهرجان القاهرة السينمائي هي احتفالية في حب السينما والإنسانية، ليس مجرد احتفال سينمائي عابر، بل هو جزء لا يتجزأ من ذاكرة مصر الثقافية، من هويتنا الجماعية، ما يهم حقا هو الجماهير، نجاحه يقاس بمدى تفاعل الناس معه.
هذه النسخة تضم نسخة كبيرة من الأفلام في أكثر من دولة عربية وعالمية، مع تركيز على صداقات فنية بين مصر والعالم العربي والدولي، وقسم ترميم كلاسيكيات السينما المصرية ما يقرب من 137 فيلما، وعرض أفلام مرمّمة، وهو ما يعطي بعدًا تاريخيًا وثقافيًا للمهرجان.
الدورة الـ46 مختلفة لأنها اعتمدت على فلسفة واضحة، وهو الحفاظ على هوية المهرجان وفي الوقت نفسه تحديث روحه، هذا العام ركّزنا على ثلاثة محاور رئيسة: المحتوى، والجمهور، وصناعة السينما.
أول ما يميز هذه الدورة هو قوة البرنامج، لدينا مشاركة واسعة من دول مختلفة، وأفلام تم اختيارها بعناية شديدة لتعكس تنوع التجارب الإنسانية والفنية، سواء عربية أو دولية.
والترميم بالنسبة لي مشروع وطني، نحن لا نقدّم مهرجانًا فقط، نحن نحافظ على ذاكرة السينما المصرية، في هذه الدورة وسّعنا هذا القسم، وقدمنا أعمالًا مرممة تُعرض بجودة تليق بتاريخها.
*خلال السنوات الأخيرة كانت هناك مبادرات لدعم الترميم الرقمي للأفلام المصرية… ما أهمية هذا المشروع ؟
-الترميم الرقمي ليس رفاهية… إنما واجب ثقافي ووطني، السينما المصرية واحدة من أقدم وأغنى السينمات في المنطقة، وعندنا تراث كبير لو ما حافظناش عليه هيتآكل مع الوقت كتير من الأفلام اللي اتصورت على شرائط قديمة اتعرضت لعوامل تلف ورطوبة وحرارة، وده بيهدد تاريخ كامل بالاختفاء.وأهمية المشروع إنه بيعيد الحياة لأفلام لا يمكن تعويضها، إحنا مش بنرمم مجرد صور… إحنا بنرمم ذاكرة، بنرمم تجارب أجيال كاملة من الفنانين، ومراحل اجتماعية وثقافية عاشتها مصر. وفي الدورة الـ46 خصصنا مساحة مهمة للترميم، لأن المهرجان لازم يبقى مش بس منصة للعروض الجديدة، لكن كمان منصة للحفاظ على تاريخنا، وده دورنا تجاه الأجيال الجديدة اللي يمكن تشوف الفيلم لأول مرة بجودة تليق بيه.
المبادرات اللي ظهرت في السنوات الأخيرة خطوة عظيمة، لكنها محتاجة استمرارية وتعاون أكبر بين الدولة والقطاع الخاص، إحنا عندنا مئات الأفلام اللي تستحق الترميم، ومشروعات زي دي محتاجة تمويل وخبرة وتكنولوجيا متطورة.
*هناك أفلام مهددة بالاندثار بسبب سوء حالة النسخ الأصلية… كيف يعمل المهرجان على إنقاذ هذه الأعمال ؟
- شكلنا لجنة متخصصة للتواصل مع الجهات اللي تمتلك حقوق الأفلام سواء القطاع الخاص أو مؤسسات الدولة ونبدأ نحصر الأعمال اللي حالتها حرجة، بعد الحصر، بنحولها مباشرة لخبراء الترميم الرقمي، اللي بيستخدموا أحدث التقنيات لإعادة الصورة والصوت لأقرب ما يكون للحالة الأصلية. ولما بنعرض فيلم مرمم في المهرجان، إحنا مش بنقدم عرض شرفي وبس… ده نوع من الإنقاذ العلني، بنرجع الفيلم للحياة، وده بيشجع جهات أكتر إنها تمنحنا حقوق ترميم أفلام أخرى.
الأجيال الجديدة محتاجة تشوف تراثها بجودة محترمة، مش بنسخ باهتة، وده أحد أهم أهدافنا إنقاذ الفيلم، وتقديمه في نسخة حديثة، ثم حفظه بشكل رقمي آمن يمنع تدهورها من جديد.
*ما أبرز التحديات التي واجهتكم في التحضير لهذه الدورة، سواء على المستوى التنظيمي أو الفني ؟
-أولًا، على المستوى التنظيمي، كان علينا التعامل مع حجم كبير من الضيوف والفعاليات في وقت قياسي، إلى جانب التأكد من جاهزية جميع المرافق الفنية والتقنية داخل دار الأوبرا، هناك تفاصيل دقيقة جدًا تتعلق بحركة الضيوف، وتأمين العروض، وتنسيق المواعيد، وكلها تحتاج فريقًا متخصصًا يعمل بتناغم كامل، أما على المستوى الفني، التحدي الأكبر كان الحفاظ على مستوى الاختيارات السينمائية.
ونحرص دائمًا على أن تكون الأفلام المشاركة على أعلى مستوى من الجودة، سواء على صعيد الرؤية الإخراجية أو المضمون، وهذا يتطلب مشاهدة مئات الأعمال قبل اختيار القائمة النهائية كذلك ملف ترميم الأفلام كان من الملفات الصعبة، لأنه يحتاج إلى تقنيات عالية وتنسيق مع جهات مختلفة، ونحن نعتبره من أهم مشروعات المهرجان في السنوات الأخيرة لحماية التراث السينمائي المصري.
*يشهد المهرجان هذا العام تكريم المخرج الكبير محمد عبدالعزيز… ما المعايير التي استندت إليها في اختيار هذا التكريم ؟
-أولًا، نحن ننظر دائمًا إلى القيمة الفنية الحقيقية لصاحب التكريم، ومحمد عبدالعزيز واحد من أهم المخرجين في تاريخ السينما المصرية، قدّم أعمالًا تركت أثرًا كبيرًا في وجدان الجمهور وفي تطور الصناعة نفسها.
ثانيًا، نأخذ في الاعتبار حجم التنوع في مشواره، محمد عبدالعزيز يمتلك قدرة نادرة على التنقل بين الكوميديا والدراما الاجتماعية والأفلام التجارية الراقية، وفي كل مرة كان يقدّم بصمة خاصة بها ووعيًا كبيرًا بطبيعة المتفرج المصري.
ثالثًا، وهو عنصر مهم بالنسبة لنا، تأثيره على الأجيال الجديدة، كثير من المخرجين الشباب يعتبرونه مدرسة في الإيقاع والحكي السينمائي، وهذا يضعه في مكانة تستحق الاحتفاء إلى جانب ذلك، نحن نحرص دائمًا على تكريم الرواد الذين ساهموا في تشكيل تاريخ السينما المصرية، ومحمد عبدالعزيز جزء أصيل من هذا التاريخ، وبالتالي كان من الطبيعي أن نحتفي به في دورة نحرص أن تكون مميزة وتليق بإسمه وبمسيرته.
*كما يكرّم المهرجان النجم خالد النبوي… ما الرسالة التي يحملها هذا التكريم لجيل الممثلين؟
-رسالة تقدير للموهبة المستمرة، لأن خالد النبوي على مدار مسيرته قدم أعمالًا متنوعة وراقية، جمع فيها بين الاحترافية والصدق الفني، وهذا نموذج يُحتذى به.
والتكريم يؤكد على أن العمل الجاد والاختيارات الفنية المدروسة تؤتي ثمارها على المدى الطويل، وأن النجاح في السينما لا يُقاس فقط بالشهرة أو الشعبية المؤقتة، بل بالاستمرارية والقدرة على ترك أثر في وجدان الجمهور وهو تذكير لكل الممثلين أن المهنة تحتاج إلى احترام تاريخها ورموزها، وأن كل جيل يحمل مسئولية الاستمرار في بناء السينما المصرية بما يليق بتاريخها العريق.
*ما تعليق الفنان حسين فهمي على أن الفنانة عبلة كامل رفضت التكريم في مهرجان القاهرة ؟
- نعم، عبلة كامل رفضت التكريم لأنها لا تحب الظهور أمام الأضواء مرة أخرى، وهي شخصيتها هادئة وتفضل الابتعاد عن المناسبات الإعلامية، ونحن نحترم قرارها تمامًا، وأعتقد أن هذا يعكس جانبًا من أصالة الفنانين الذين لا يبحثون عن الأضواء بقدر ترك أثرهم في الأعمال الفنية.
*كيف ينظر مهرجان القاهرة السينمائي إلى مثل هذه المواقف ؟
-المهرجان يسعى لتكريم جميع الفنانين تقديرًا لمسيرتهم الفنية، سواء حضروا الحفل أم لم يحضروا، رسالتنا الأساسية هي الاحتفاء بالفن والإبداع وليس مجرد الأضواء أو الظهور الإعلامي.
*هل هذا الموقف يغير من أهمية التكريم للفنان نفسه أو للجمهور ؟
-على الإطلاق، التكريم يظل احتفاءً بالمسيرة والإبداع، ورسالة المهرجان تصل لكل من شاهد هذه الأعمال أو سيتعرف عليها لاحقًا، حضور الفنان أو عدم حضوره لا يقلل من قيمة إنجازاته.
*ما الذي تحرص عليه في تكريم الأعمال الكلاسيكية مثل الأفلام الأبيض والأسود ؟
-نحرص على الحفاظ على ألوان الأبيض والأسود الأصلية لأنها جزء من هوية الفيلم وروحه، التراث السينمائي يحتاج للحفاظ عليه بصورته الأصيلة لكي تظل الأعمال خالدة وتصل للأجيال الجديدة بنفس جمالية إصدارها الأول.
*لاحظنا تفاعلًا كبيرًا من النجوم العرب والمصريين على السجادة الحمراء… كيف ترى هذا الحضور الداعم للمهرجان ؟
-الحضور الكبير للنجوم على السجادة الحمراء يعكس روح التعاون والمحبة بين الفنانين، ويؤكد أن مهرجان القاهرة ليس مجرد حدث سينمائي، بل منصة تجمع بين الفن والجمهور والثقافة، وجودهم يضيف للمهرجان طاقة إيجابية، ويحفز الجمهور على متابعة العروض والمشاركة في الفعاليات، كما يعكس الاحترام الكبير لتاريخ السينما المصرية والجهود المبذولة في تنظيم هذه الدورة.
*كان هناك احتفاء كبير للفنانة إسعاد يونس على ريد كاربت مهرجان القاهرة السينمائي.. ماذا يصف الفنان حسين فهمي هذا المشهد ؟
-كانت لحظة رائعة ومميزة بالنسبة لي، عندما استقبلت على السجادة الحمراء الفنانة الكبيرة إسعاد يونس بالنسبة لي، إسعاد ليست مجرد زميلة في الوسط الفني، بل هي رمز من رموز السينما المصرية، امرأة صنعت التاريخ السينمائي بجهدها وعطائها المستمر طوال عقود.
حضورها في المهرجان يمثل بالنسبة لي وفاءً للتاريخ الفني والجيل الذي أعطى السينما المصرية الكثير من الجمال والتميز، عندما اقتربت منها وحيتها، شعرت بالفخر والاعتزاز، ليس فقط كفنان، بل كإنسان يقدر قيم الإبداع والالتزام الفني.
إسعاد يونس لها قدرة فريدة على إشاعة الطاقة الإيجابية في كل مكان تتواجد فيه، ووجودها في حفل الافتتاح أضاف للمهرجان رونقًا خاصًا، وأعاد إلى أذهاننا ذكريات جميلة من تاريخ السينما المصرية.
بالنسبة لي، الاحتفاء بها ليس مجرد مناسبة اجتماعية أو لحظة تصوير، بل هو اعتراف بمسيرة طويلة من العطاء، ومسئولية لنا جميعًا كممثلين وكصناع فن أن نحافظ على هذا الإرث ونقدره.
*برأيك، ما دور الفنانين في دعم المهرجان وتعزيز مكانته ؟
-الفنانون لهم دور محوري وأساسي في دعم أي مهرجان سينمائي، وأعتقد أن تأثيرهم يتجاوز مجرد حضورهم كوجوه معروفة.
أولًا، حضور الفنانين يعزز من مصداقية المهرجان وقيمته، لأن الجمهور يرى وجوهًا مألوفة ومحترمة، وهذا يمنح الحدث بعدًا ثقافيًا حقيقيًا وليس مجرد عرض للأفلام الفنان يمثل جسرًا بين المهرجان والجمهور، في التفاعل الإنساني والمشاعر التي يثيرها الحضور المشترك تعكس قوة الفن في التواصل مع الناس.
ثانيًا، الفنانون يساهمون في إبراز السينما كأداة ثقافية، من خلال مشاركتهم في ندوات، حوارات، وورش عمل، وأحيانًا دعمهم لأفلام جديدة أو مشاريع ترميم للأفلام القديمة، هذا كله يعكس رسالة المهرجان في الحفاظ على التراث السينمائي وتعليم الأجيال القادمة، وفي الوقت نفسه يشجع السياحة الثقافية لأن عشاق السينما يأتون لمشاهدة عروض الأفلام والتفاعل مع صناعها.
ثالثًا، الفنانون يلعبون دورًا إعلاميًا مهمًا، حضورهم على السجادة الحمراء، صورهم، لقاءاتهم الإعلامية، كلها عناصر تزيد من اهتمام الجمهور محليًا وعالميًا، هذا النوع من الدعم يعكس أيضًا احترام الفنانين للفن السينمائي كصناعة والثقافة المصرية بشكل عام في النهاية، أرى أن الفنانين ليسوا مجرد ضيوف شرف، بل هم شركاء حقيقيون في صناعة الحدث، ومساهمتهم الحقيقية تتجلى في التفاعل الإبداعي، ونقل رسالة المهرجان، ودعم السينما كقيمة ثقافية وسياحية، وهذا ما يجعل أي مهرجان سينمائي ناجحًا ومستدامًا.
*هناك حضور فلسطيني قوي من جانب الأفلام والحضور.. ما الهدف والرسالة وراء ذلك؟
-الحقيقة أن الحضور الفلسطيني في هذه الدورة من مهرجان القاهرة السينمائي ليس مجرد عدد من الأفلام أو ضيوف فقط، بل هو رسالة ثقافية وإنسانية عميقة، السينما الفلسطينية اليوم تمثل صوتًا حقيقيًا للقضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، لكنها تفعل ذلك بطريقة فنية راقية تتجاوز أي خطاب سياسي مباشر.
الهدف من هذا الحضور هو إعطاء الجمهور المصري والعالمي فرصة لفهم معاناة الفلسطينيين وتجاربهم اليومية، من خلال الفن والإبداع، وليس من خلال الأخبار أو التقارير فقط، هذه الأفلام تفتح نافذة على حياة الناس، أحلامهم، آلامهم، وقيمهم، وتُظهر كيف يمكن للفن أن يكون أداة قوية للتواصل والتفاهم، بالإضافة إلى ذلك، هذا التواجد يعكس روح التعاون الفني بين مصر وفلسطين، ويؤكد أن السينما لغة مشتركة يمكن أن تتجاوز الحدود والصراعات.
نحن في مهرجان القاهرة نسعى دائمًا إلى دعم السينما العربية، ومشاركة فلسطين بهذه القوة تعكس مدى قدرة الفن على بناء جسور ثقافية، وإرسال رسالة للعالم أن الإبداع لا يعرف قيودًا، وأن الثقافة والفن هما الطريق الأمثل للتقارب الإنساني والتفاهم بين الشعوب.











0 تعليق