في مثل هذا اليوم 17 نوفمبر من كل عام، يقف الوطن أمام واحدة من أصدق حكايات البطولة والعطاء؛ ذكرى استشهاد العقيد محمد مبروك، ضابط الأمن الوطني، الذي أصبح رمزًا راسخًا في مواجهة الإرهاب الإخواني منذ سقوط حكم الجماعة في 2013.
لم يكن مبروك مجرد ضابط أمن وطني بارز، بل كان شاهدًا رئيسيًا على خيانة جماعة الإخوان، وصوتًا قويًا في كشف مخططاتهم وحقيقة ارتباطهم بالتنظيم الدولي. دفع حياته ثمنًا للحق، حين لاحقته يد الغدر بأعيرة نارية في وضح النهار، ليظل اسمه محفورًا في ذاكرة الدولة المصرية كشاهد على زمن صعب انتصر فيه الوطن رغم التضحيات.
من هو الشهيد العقيد محمد مبروك؟
نشأته وبدايات طريق الوطنية
وُلد الشهيد البطل محمد مبروك في منطقة الزيتون بالقاهرة عام 1974، ونشأ في أسرة مصرية بسيطة غرست فيه قيم الوطنية والالتزام والانضباط.
منذ سنواته الأولى، كان ميالًا للحياة العسكرية، محبًا للاستقامة والانضباط، وهو ما دفعه للالتحاق بكلية الشرطة.
محطة التكوين الأمني.. كلية الشرطة (1995)
تخرج مبروك في كلية الشرطة عام 1995، ليبدأ مسيرة أمنية مميزة، التحق بعدها بجهاز أمن الدولة عام 1997، حيث أظهر قدرات تحليلية واستقصائية جعلته واحدًا من أهم الضباط المتخصصين فى متابعة نشاط الجماعات المتطرفة، وعلى رأسها جماعة الإخوان الإرهابية.
على مدار سنوات خدمته، تمتع مبروك بسمعة طيبة كضابط ذكى، محترف، هادئ الطباع، لكنه شديد الحزم أمام كل ما يمس أمن الوطن.
من أمن الدولة إلى الأمن الوطني.. رحلة كفاح ضد الإرهاب
بعد 2011.. سنوات الاضطراب
مع أحداث يناير 2011 وما تبعها من حل جهاز أمن الدولة، تم نقل الشهيد إلى الأمن الوطني بمديرية أمن الجيزة.
ورغم الظروف الصعبة، ظل مبروك يؤدي عمله بنفس الاحترافية والالتزام، مشاركًا في جهود إعادة بناء الجهاز الذى يمثل خط الدفاع الأهم عن أمن مصر القومي.
بعد 30 يونيو.. عودة إلى قلب المعركة
عقب ثورة 30 يونيو وسقوط حكم الإخوان، عاد مبروك إلى جهاز الأمن الوطني الرئيسي بمدينة نصر، وهو المكان الذى شهد أهم ملفاته الأمنية المتعلقة بخيانة الجماعة، ومخططات التنظيم الدولى لاستهداف الدولة المصرية.
في تلك المرحلة، كان مبروك ضمن المجموعة المكلفة بمتابعة نشاط الجماعة، وتوثيق الأدلة على تورطهم في التخابر وتمرير معلومات سرية لقوى خارجية.
البطل الذي فضح مخططات الإخوان
التسجيلات.. والوثائق التي هزّت حكم الإخوان
قبل أحداث 2011، تمكن العقيد محمد مبروك من تسجيل مكالمات هاتفية ورصد رسائل إلكترونية سرية بين القيادي الإخواني محمد مرسي – الذي كان عضوًا بمكتب الإرشاد آنذاك – وبين أحمد عبد العاطي، مسؤول التنظيم الدولي للإخوان في تركيا.
كشفت هذه التسجيلات:
اتفاقات سرية بين قيادات الإخوان في الداخل والخارج
مخططات تهدد الأمن القومي
تنسيق مباشر بين مكتب الإرشاد والتنظيم الدولي
تورط مرسى وآخرين في التواصل مع جهات أجنبية
هذه الأدلة كانت حجر الأساس في قضية التخابر الكبرى التي أدين فيها مرسى وقيادات الجماعة.
تقرير الـ 35 صفحة: الوثيقة التي دفعت حياته ثمنًا لها.
قدّم الشهيد تقريرًا مفصلًا من 35 صفحة عن الجماعة، كشف فيه:
خيانة قيادات الإخوان
تورطهم في التخابر
مخطط إسقاط الدولة
تواصلهم مع جهات معادية
أدلة دامغة تؤكد استحقاقهم للعقاب
كان هذا التقرير بمثابة “الصندوق الأسود” الذى أرعب الجماعة، وجعل العقيد مبروك على رأس قوائم الاغتيال.
يوم الاغتيال.. تفاصيل الجريمة الغادرة
عملية إرهابية مُحكمة
في مساء يوم 17 نوفمبر 2013، بينما كان العقيد محمد مبروك يستقل سيارته بشارع نجاتي في مدينة نصر متوجهًا إلى عمله، لاحقته مجموعة مسلحة من الملثمين ينتمون لجماعة الإخوان الإرهابية.
توزع الإرهابيون في محيط الشارع، وعقب اقتراب سيارته، فتحوا عليه النيران بكثافة، في جريمة خططت لها قيادات الجماعة ونفذها عناصر حركة “حسم” الوليدة آنذاك.
استشهاد البطل
استشهد العقيد مبروك على الفور، بعد أن اخترقت الطلقات جسده، لتفيض روحه الطاهرة دفاعًا عن وطنه، وشاهدًا على وحشية جماعة لا تتردد في قتل المصريين من أجل مصالحها.
كان اغتياله محاولة انتقامية واضحة من شهادته في قضية التخابر، ومساعيه لكشف التنظيم من الداخل.
جنازة.. تليق بالبطل
وداع في مشهد وطني مهيب
في صباح 18 نوفمبر، شُيعت جنازة الشهيد البطل وسط جنازة عسكرية وشعبية ضخمة، تقدمتها قيادات الدولة ووزارة الداخلية وخلاف من رجال الأمن، وسط حضور آلاف المواطنين.
ارتفع النعش مغطى بالعلم المصري، مصحوبًا بالموسيقى العسكرية، وأكاليل الورود، في مشهد مؤثر يعكس مكانة الشهيد وإجلال الشعب لدوره.
كانت الجنازة رسالة واضحة: مصر ستظل تكرم أبناءها الشهداء، وستواصل حربها على الإرهاب مهما كانت التضحيات.
محمد مبروك.. رمز خالٍ من الخوف
ضابطًا.. وشاهدًا على الحقيقة
لم يكن مبروك مجرد ضابط أمن، بل كان شاهدًا رئيسيًا على حقبة سوداء حاولت فيها جماعة الإخوان اختطاف الوطن. كان يعرف تمامًا أنه مهدد، وأن الجماعة لن تتسامح مع ضابط كشف خياناتها وتخابرها، لكنه لم يتراجع.
ظل يعمل حتى اللحظة الأخيرة، مدركًا أن حماية الوطن أثمن من حياته.
البطل الذى أوجع الجماعة
أثار دوره في قضية التخابر غضب قيادات الإخوان، فقرروا التخلص منه. لكن المفارقة أن استشهاده جاء ليؤكد صحة ما كشفه، ويُسقط عن الجماعة آخر أوراق التجميل.
الإرث الوطني للشهيد
دروس من حياة قصيرة.. لكنها عظيمة
ترك الشهيد مبروك إرثًا إنسانيًا ووطنيًا عميقًا، يتمثل في:
الشجاعة في مواجهة الخطر
الإخلاص في خدمة الوطن
المهنية العالية في العمل الأمني
اليقين بأن الحق ينتصر مهما طال الزمن
أثره داخل وزارة الداخلية
يعتبر مبروك واحدًا من أبرز ضباط الأمن الوطني الذين ساهموا في إعادة بناء الجهاز بعد 2011، وكان نموذجًا يُحتذى به في العمل الاستخباري والتحقيقات المعمقة.
الإخوان.. والانتقام من الشاهد الخطير
كيف وضعت الجماعة اسمه على قوائم الاغتيال؟
بعد سقوط حكم المرشد، بدأت الجماعة تشكيل أجنحة مسلحة لاستهداف ضباط الجيش والشرطة، وكان مبروك الهدف الأول، في محاولة للرد على شهادته.
اعتمدت الخلية المنفذة على:
مراقبته لأيام
اختيار شارع جانبي يسمح بالهروب
استخدام دراجات بخارية لتسهيل التحرك
إطلاق وابل من الرصاص بشكل مباشر
تنظيم حسم.. النموذج الأولي
أظهرت التحقيقات لاحقًا أن عملية اغتيال مبروك كانت أحد أوائل عمليات الجناح المسلح للجماعة، الذى عرف لاحقًا بحركة “حسم”، ما يكشف خطورة التنظيم وارتباطه بالجماعة الأم.
محمد مبروك في ذاكرة الوطن
بطلٌ في الدراما.. وفى الوعي الجمعي
جسدت الدراما المصرية شخصية الشهيد في مسلسل “الاختيار 2”، ليظل حاضرًا في ذهن المشاهدين كشخصية قوية، عادلة، صلبة أمام الإرهاب.
لكن الحقيقة أكبر بكثير من مجرد عمل درامي؛ فقد كان مبروك أحد أعمدة الأمن الوطني، وصاحب دور محوري في منع سقوط الدولة.
تمر السنوات، ويظل اسم العقيد محمد مبروك حاضرًا بقوة في الذاكرة الوطنية. لم يكن ضابطًا عاديًا، بل كان جدارًا من جدران الوطن، وقف في وجه الخونة، وكشف خططهم، ودفع حياته ثمنًا للشهادة.
ذكرى استشهاده ليست مجرد يوم عابر، بل محطة يتوقف عندها كل مصري ليتذكر أن أمن الوطن صُنع بدماء رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
السلام للشهداء.. والخلود لأبطال مصر.









0 تعليق