مصر تصنع الانبهار.. المتحف الكبير ونجاح استراتيجيات التسويق السياسي

البوابة نيوز 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

في مشهد احتفالي مهيب جذب أنظار العالم، شهدت القاهرة افتتاح المتحف المصري الكبير بحضور واسع لوفود رسمية وثقافية من أكثر من سبعين دولة، وبمشاركة مؤسسات دولية معنية بالتراث واليونسكو، وسط تغطية إعلامية إقليمية ودولية لم تحدث من قبل في تاريخ الفعاليات الثقافية المصرية.

المتحف، الذي يُعد الأكبر من نوعه في العالم، يمثل حدثاً سياسياً واتصالياً بامتياز، حمل في طياته رسائل دقيقة حول قدرة الدولة المصرية على إدارة صورتها الدولية، وبناء سردية جديدة تجمع بين الحضارة والتحديث، بين الجمال والإنجاز، وبين التاريخ والدبلوماسية.

ومنذ اللحظة الأولى، تجاوز الافتتاح الطابع البروتوكولي إلى ما يشبه الاستعراض الاتصالي المنهجي من مشاهد مصورة بعناية، وحضور دولي مدروس، وتفاعل شعبي واسع على المنصات الرقمية. وهكذا تحول المتحف إلى أداة مصرية لتأكيد سرديتها السياسية الجديدة، القائمة على الثقة بالذات الوطنية والريادة الحضارية والاستقرار المؤسسي.

المتحف في سياقه السياسي والاتصالي

تزامن افتتاح المتحف في لحظة إقليمية ودولية حساسة؛ إذ يشهد الشرق الأوسط حالة من إعادة التموضع بين القوى الكبرى، وتنافساً متصاعداً على رمزية “الاستقرار والهوية”. وفي هذا السياق، حرصت القاهرة على أن تحول مشروعاً ثقافياً إلى منصة سياسية للظهور العالمي الإيجابي.

فمن خلال المتحف، قدمت مصر نفسها كـ"قوة حضارية مستقرة"، قادرة على تحويل تراثها إلى مصدر نفوذ ثقافي واقتصادي. فخارجياً، عززت احتفالية افتتاح المتحف من الثقة الدولية في صورة الدولة المصرية كمركز توازن واستقرار وسط إقليم مأزوم، أما داخلياً، فتم تثبيت السردية الوطنية القائمة على أن التنمية والهوية وجهان لمشروع سياسي واحد. بهذا المعنى، كان حفل الافتتاح أداء اتصالي يعبر عن مصر كدولة حديثة تستثمر ماضيها لتأكيد شرعيتها ومكانتها في المستقبل.

التسويق السياسي المؤسسي

اعتمدت الدولة المصرية خلال العقد الأخير على تطوير نمط جديد من الاتصال السياسي المؤسسي، يقوم على دمج الرسائل التنموية والثقافية في خطاب موحد يخاطب الداخل والخارج في آن واحد.وفي هذا الإطار، شكل المتحف المصري الكبير ذروة هذا التحول، حيث تمت إدارة الافتتاح كحملة تسويق سياسي فى استراتيجية ذات بنية اتصالية دقيقة لتصيغ الصورة الذهنية للجمهورية الجديدة. 

حيث تمحورت الرسالة المركزية حول فكرة أن مصر القديمة والحديثة تلتقيان في صرح واحد، بما يرمز إلى استمرارية الدولة وقدرتها على التجدد عبر العصور. كما اعتمدت القاهرة على وسائط إعلامية عالمية لنقل الحدث في بث حي عبر المنصات الدولية، مستثمرة الذاكرة البصرية العميقة للحضارة المصرية كأداة ترويجية ذات تأثير وجداني عالمي. وعلى المستوى الداخلي، أُدير الجمهور الوطني بأسلوب تفاعلي من خلال إشراك الرأي العام في متابعة الحدث باعتباره لحظة وطنية جامعة، ما عزز الشعور الجماعي بالفخر والانتماء.

وقد انعكست هذه الحالة من التفاعل الشعبي في الإقبال الواسع على زيارة المتحف فور افتتاحه، حيث نفدت التذاكر بالكامل في أول عطلة أسبوعية بعد الافتتاح، في مؤشر على نجاح الدولة في تحويل هذا الصرح إلى فضاء وطني للهوية والانتماء، وعلى فعالية الاستراتيجية الاتصالية في تحويل الاهتمام الجماهيري إلى مشاركة فعلية تعكس الثقة في المشروع وقدرته على تمثيل مصر الحديثة أمام العالم.

دبلوماسية المتاحف

أدركت الدولة المصرية مبكراً أن دور المتاحف يتعدى كونه مؤسسات لحفظ التراث، ليصبح منصات دبلوماسية طويلة المدى.ومن خلال “دبلوماسية المتاحف”، أعادت مصر تعريف حضورها العالمي بوصفها دولة تصدر ثقافتها كقيمة دولية، لا كمنتج سياحي فحسب.

فالمتحف المصري الكبير أصبح رمزاً جديداً للقوة الناعمة المصرية، تجمع فيه الدولة بين العمق التاريخي والتطور المعماري الحديث، بما يعزز صورتها كقوة حضارية تجمع بين الأصالة والحداثة.ولذلك، تجاوز الانبهار به وبمقتنياتهالبروتوكول الرسمي، إذ شوهدت الوفود الأجنبية تلتقط الصور أمام المعروضات، في مشهد يمثل ذروة نجاح الاتصال الرمزي للدولة.

بناء سردية اتصالية متكاملة

يعتبر افتتاح المتحف امتداداً لمنظومة رمزية متكاملة بدأت بموكب المومياوات الملكية عام 2021، مروراً بطريق الكباش في الأقصر عام 2022. إذ شكلت تلك الفعاليات ثلاثة فصول متتالية في استراتيجية مصر الاتصالية الجديدة، القائمة على تقديم صورة متكاملة للدولة الحديثة التي تستلهم تاريخها لصناعة المستقبل.

وفي كل فصل، نجحت القاهرة في توظيف أدوات الاتصال الحديثة (الصورة، الموسيقى، الإبهار البصري، والإعلام الدولي) لتثبيت صورتها في الوعي العالمي عبر "السرد البصري" الذي يجمع بين الهيبة والجمال، وبين الإتقان والتنظيم. وجاء المتحف ليكمل هذا المسار المعبر عن المؤسسة الدائمة والرمز الوطني المستدام.

الاقتصاد السياسي والدبلوماسي

امتدت أهداف الدولة المصرية من افتتاح المتحف المصري الكبير وتجاوزت البعد الثقافي إلى استثمار اقتصادي ودبلوماسي متكامل يجسدً نضجاً في توظيف “القوة الناعمة” لبناء النفوذ وتعزيز الصورة الوطنية. فالمتحف تم تقديمه كمنصة اقتصادية ودبلوماسية تجمع بين السياحة والاستثمار والثقافة في إطار واحد. على المستوى الاقتصادي، يُعد المتحف محوراً رئيسياً في منظومة السياحة الثقافية المستدامة، حيث يهدف إلى استقطاب شرائح نوعية من الزوار ورفع متوسط الإنفاق وتعظيم العائد من الخدمات المرافقة في محيط الجيزة، بما يعزز الدخل القومي ويحول التراث إلى مورد إنتاجي مرتبط بالاقتصاد الإبداعي.

أما سياسياً ودبلوماسياً، فقد أصبح المتحف رصيداَ ضمن الرأسمال الدبلوماسي الجديد ليمكن القاهرة من التعامل بندية مع المؤسسات الثقافية والتمويلية الدولية كاليونسكو والبنك الدولي، ورسخ حضورها في “دبلوماسية الصورة” عبر مشهد بصري منظم ومبهر نقل للعالم رسالة استقرار وقدرة. وهكذا تحولت “صورة مصر الجميلة والمنظمة” إلى أداة نفوذ ناعمة تُستخدم بوعي لتعزيز الشرعية، وبناء الثقة، وجذب الشراكات الاستراتيجية، وتجسيد دولة تجمع بين عمق التاريخ وفاعلية الحاضر.

مجمل القول، إن افتتاح المتحف المصري الكبير مثل ذروة التحول الاتصالي في السياسة المصرية، من إدارة الرسائل إلى صناعة الصورة، إذ استطاعت الدولة عبر هذا الحدث أن تؤكد للعالم أن القوة الناعمة مشروعاً سياسياً متحركاً يمكن هندسته وتوجيهه بدقة.

ومن خلال الدمج بين السياحة، والثقافة، والإعلام، بنت القاهرة نموذجاً فريدًا لـ"التسويق السياسي الحضاري"، الذي لا يكتفي بعرض التاريخ، بل يوظفه كأداة للنفوذ والتأثير. وباتت الاحتفالات الثقافية المصرية رسالة اتصالية عالمية تقول إن القاهرة الساحرة -بحضارتها وتنظيمها وقدرتها على الإبهار- أكدت مكانتها كصوت ووجه ورمز للحضارة في زمن يبحث فيه العالم عن المعنى والجمال والقدرة على الإنجاز.

* باحثة في الشؤون السياسية والإعلامية

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق