لافتتاح المتحف المصري الكبير في الأول من نوفمبر 2025 دلالات كثيرة، تاريخية وسياسية وثقافية وحضارية، وله كذلك تداعيات فكرية سياسية وثقافية، فضلًا عن التداعيات والآثار الاقتصادية، هنا يركز هذا المقال على التداعيات الثقافية، وبصفة خاصة ما يثيره وسوف يثيره افتتاح هذا المتحف، من عودة الجدل والنقاش حول الهوية الوطنية للمصريين.
بدأت فكرة إنشاء المتحف المصري الكبير في تسعينيات القرن الماضي، وفي عام 2002 تم وضع حجر الأساس لمشروع المتحف ليُشيَّد في موقع متميز يطل على أهرامات الجيزة الخالدة، واعتمد تصميم المتحف على أن تُمثل أشعة الشمس الممتدة من قمم الأهرامات الثلاثة عند التقائها كتلة مخروطية هي المتحف المصري الكبير. ويُعد المتحف أحد أهم وأعظم إنجازات مصر الحديثة؛ فقد أُنشئ ليكون صرحاً حضارياً وثقافياً عالمياً متكاملاً، وليكون الوِجهة الأولى لكل من يهتم بالتراث المصري القديم، كأكبر متحف في العالم يروي قصة تاريخ الحضارة المصرية القديمة.
لماذا احتفل المصريون بالافتتاح؟
لكن لماذا فرح المصريون بالمتحف؟ ولماذا احتفلوا بهذه الطريقة؟
لقد تحول كثير من المصريين صغارًا وكبارًا إلى مصريين قدماء (فراعنة باللغة السائدة)، وتحولت صفحات الفيس وقصصه إلى مصريين يحتفلون بارتداء الملابس (الفرعونية) المدنية والعسكرية، وهي تعبيرات احتفالية تعبر عن الفرح وعن الفخر بالانتماء لهذا الشعب العريق.
لكن الأمر لم يتوقف عند الفرح بالانتماء، والفخر بالانتماء؛ بل تخطاه إلى عودة النقاش حول حقيقة الهوية الوطنية للمصريين، وعادت الحوارات حول صراع الثقافات وصراع الهويات، هوية مصرية؟ أم عربية؟ أم إسلامية؟.
وذهبت بعض النقاشات كالعادة إلى إقحام العقيدة الدينية والبحث في عقائد المصريين القدماء منذ سبعة آلاف سنة، وبدلًا من الاحتفال والفرح أراد البعض أن يفسد الفرح بإقحام صراع الثقافات وصراع الهويات وربما صراع الحضارات بمناسبة افتتاح المتحف المصري الكبير، ناسيًا أو متناسيًا أن افتتاح المتحف المصري هو في الأصل مناسبة ثقافية وحضارية للاحتفاء بفجر التاريخ والاحتفاء بفجر الضمير، والاحتفاء بهوية وطنية مصرية أهم ما تتميز به هو التنوع التاريخي والثقافي.
الهوية الوطنية للمصريين
يعيد افتتاح المتحف المصري الكبير طرح الهوية الوطنية للمصريين، باعتبارها سبيكة من الثقافات المتنوعة التي تكونت وتبلورت وتفاعلت معاً عبر مراحل تاريخية متنوعة، وعبر تفاعلات الجغرافيا والتاريخ، وعبر تنوع مكوناتها الثقافية، ذلك التنوع الثقافي الذي صنع قدرة الشخصية المصرية على الصمود في مواجهة المخاطر والأزمات والتحديات، وصنع قدرة الهوية المصرية على البقاء والتجدد والتطور والتفاعل مع المتغيرات الداخلية والخارجية.
فالهوية الوطنية للمصريين لم تتوقف عند أصولها الأولى، على الرغم ما للأصول من قوة وعمق في التاريخ، بل تنطوي كذلك على عدة ثقافات تصنع تنوعها، وهو تنوع ثقافي نابع من التنوع الذي شهده (التاريخ المصري) العريق، منذ قدماء المصريين، (والموقع الجغرافي) الذي أنتج عبقرية المكان (وفقاً لِتعبير الدكتور جمال حمدان في كتابه شخصية مصر، دراسة في عبقرية المكان)، والذي جعل من مصر (جسراً لتفاعل العديد من الثقافات)، وممراً للعديد من الهجرات البشرية والغزوات الاستعمارية والحملات العسكرية والزيارات والزيجات وإقامة الجاليات وتمصير الكثير من الأجانب.
لكن هذا الموقع وهذا الجسر وهذا الممر، لم يكن بقادر على أن يكون بوتقة للتفاعل الثقافي الفعال، ولا بوتقة لتكوين الهوية الوطنية التي تتسم بالتنوع الثقافي، إلا لأن عوامل الجغرافيا والتاريخ، خاصة مع وجود نهر النيل، قد وضعت الأساس الاجتماعي والسياسي المبكر لضرورة وجود (الدولة الوطنية المركزية المصرية القديمة)، أقدم دولة مركزية في التاريخ، بِوظائفها الهندسية لضبط النهر، ووظائفها الاجتماعية والثقافية والعلمية، وما أنتجته من منظومات قيمية اجتماعية وثقافية وعلمية، ووظيفتها الوطنية ببناء جيشها الوطني لمواجهة الغزوات والحملات الاستعمارية، فقد كان لوجود هذه الدولة المركزية أعظم الأثر في تمكين المصري القديم من بناء أساس ثقافي متين، قادر على التفاعل مع الثقافات الوافدة واستيعابها والتأثير فيها.
مميزات الهوية الوطنية للمصريين
لذلك تميزت الهوية المصرية - خاصة في فترات نهوضها وتألقها - بالقدرة على (الاستيعاب والإضافة والتطوير والتقدم)، فمع ثقافة مصر القديمة، المشهورة بالفرعونية (وهو خطأ شائع)، تفاعلت الهوية المصرية وأضافت إلى أعمدتها (وفقاً لِتعبير الدكتور ميلاد حنا في كتابه الأعمدة السبعة للشخصية المصرية) منتجات التفاعل مع ثقافة المرحلة البطلمية (حكم بطليموس وكليوباترا) في الحقبة اليونانية الرومانية، وثقافة العصر القبطي، وثقافة الحقبة الإسلامية، وتفاعلت مع ثقافة البحر الأبيض المتوسط، والثقافات الإفريقية، وأضافت مع منتصف القرن العشرين في تفاعلها مع منتجات حركة التحرر الوطني المصرية والعربية، خاصة مع ثورة يوليو و عصر عبد الناصر، بعداً ومكوناً سياسياً وثقافياً تحررياً عروبياً.
تنوع المكونات الثقافية للهوية الوطنية المصرية إذن هو ما يمثل جوهر قوتها.
وهو الأساس المتين لبقاء واستمرار الهوية الوطنية المصرية، وهو أساس قوة وتقدم الأمة والشعب والدولة المصرية.
لكن الهوية في فترات التراجع والضعف والهزَّات والأزمات تتعرض لمحنة الصراع بين مكوناتها، حيث تعمل بعض القوى من الداخل أو من الخارج على فرض أو تغليب مكون ثقافي معين على غيره من الثقافات، والدخول في صراع مع المكونات الأخرى، منتجاً التنازع بين المكونات الثقافية، ومنتجاً نزعات التعصب الطائفي والعرقي والعنصري، ومحاولاً تفريغ الهوية المصرية من ثراء تنوعها الوطني المستقبلي، وإدخالها إلى حلبة صراع الثقافات وصراع (الهويَّات) وحروب الطوائف.
لكن المصريين - في فترات الصعود والنهوض الوطني - كانوا غالباً قادرين على الحفاظ على هذا التنوع، باعتباره مصدراً لِقوة الهوية الوطنية المصرية، وقدرتها على التفاعل الخلاق بين مكوناتها الثقافية والتاريخية المتنوعة، والتفاعل الخلاق بين الوافد والموروث الثقافي، وأساساً صلباً للتجديد والتطوير والتحديث، السياسي والاجتماعي والثقافي.










0 تعليق