في رأيي، لا يعادل في القيمة الجمالية والأثرية والمادية قناعُ الملك توت عنخ آمون سوى التمثال الفاتن للملكة نفرتيتي الموجود بمتحف برلين. فالقناع يُجسّد ذروة الفن والحرفية المصرية القديمة، ويمثل قيمة حضارية استثنائية، كما أنه قطعة أثرية من الذهب الخالص مرصعة بالأحجار الكريمة والنادرة، مما يجعله أغلى قطعة أثرية في العالم. أما تمثال نفرتيتي المسلوب منا، فيُعد رمزًا للجمال الأنثوي والمصري القديم، وقطعة فنية فريدة من نوعها، وتقدّر قيمته المادية بحوالي 400 مليون يورو.
كنا نحلم يومًا باستعادة التمثال واستقباله في موكب ملوكي ليستقر في المتحف المصري الكبير، لكن للأسف الشديد باءت كل المحاولات بالفشل. واليوم، مع الأجواء الاحتفالية التي تصاحب افتتاح المتحف، والتي نهرب بها من كآبة وغباوة أيامنا، يعود ذلك الحلم لينتعش في داخلنا من جديد، ويدفعني إلى إعادة قراءة رواية رائعة للصديق المبدع "رفعت مايز اللباد" بعنوان (غريب في المدينة الملعونة).
كتب رفعت روايته بعشق حقيقي للحضارة المصرية القديمة، وبهدوء وتأمل عميق، ليعود بنا مع الشاب “غريب” إلى مدينة تل العمارنة التي أصابتها اللعنة في فترة الاضطراب الكبرى أثناء حكم إخناتون وثورة كهنة آمون عليه. ورفعت، الذي عرفته منذ سنوات طويلة، يمتلك طاقة إبداعية كبيرة، غير أن هموم المعيشة كثيرًا ما تبعده عن عالمه القصصي المميز. وبرغم ذلك استطاع أن يعبّر، بأدوات فنية بسيطة، عن مشاهد أدبية آسرة في روايته.
ينتقل “غريب” عبر الزمان إلى ذلك العصر، ويتحوّل اسمه إلى “جحوتي”، ولحسن حظه يقترب من الملكة الفاتنة نفرتيتي، فيروي لها حكايات قبل النوم. كتب رفعت هذا المشهد الجميل قائلًا: "في ليلة شديدة البرودة، كانت الملكة مستلقية على سريرها، ودعتني بصوت خافت أن أحكي لها شيئًا. قالت لي: احكِ لي عن المستقبل، عن العالم الذي تقول إنك أتيت منه. جلست بجانبها وبدأت أحكي... حدثتها عن زمانٍ تأتي فيه آلات تطير في السماء، تنقل الناس من مكان إلى آخر أسرع من النسور، وعن أدواتٍ يتحدث فيها الناس فيرون ويسمعون بعضهم من أماكن بعيدة، وعن آلاتٍ تُسهِّل الزراعة وتُخفِّف المشقة، وكلها صُنعت لتجعل الحياة أيسرَ وأسرع. سألتني: وهل صار الناس أكثر سعادة؟ قلت: في الغالب، لا. ليسوا سعداء أغلب الوقت.
تابعتُ حديثي عن حياتي الأولى، عن العالم الذي غادرتُه، فبقيت صامتة تنصت، ثم قالت وهي تغمض عينيها وتستسلم للنوم: أنت تملك خيالًا كبيرًا يا جحوتي.
وغفت الملكة في نومٍ عميق، فغطيتها بلطف ثم غادرت الغرفة. كانت كثيرًا ما تطلب مني أن أحكي لها القصص، وكنت أسترجع ما يمكنني من حكايات مشهورة مثل قصة سندريلا، أو قصة الرجل الذي يتحوّل إلى ذئب، وأحيانًا كنت أروي لها قصصًا من أفلام شاهدتها في حياتي الأولى. كانت تستمع إليّ بإنصات طفولي حتى تغفو بهدوء."
وإن كنا نتحدث عن تمثال الملكة نفرتيتي، فقد أبدع رفعت في روايته في تسجيل لحظة الخلق الفني، قائلًا: "طلبتُ منها أن أنحت لها تماثيل، فقد كنت مفتونًا بملامحها الملكية الرقيقة التي تجمع بين الجمال البريء والقوة، وبعينيها الواسعتين اللامعتين. وفي مرة كنت أنحت لها تمثالًا نصفيًا، فسألتني عن مصير التماثيل والمدينة بعد سنوات، فأخبرتها بكل ثقة أن بعض تماثيلها ستصبح الأشهر وستظل موجودة إلى الأبد. لقد نحتُّ لها أكثر من سبعين تمثالًا مختلف الأحجام، بعضها نصفي وبعضها كامل، وبعضها يجسدها إلى جوار الملك."
نعم، صار تمثالها الأشهر، لكنه للأسف ما زال بعيدًا عنا.
إفيه قبل الوداع
"حدثتُها عن زمانٍ تأتي فيه آلاتٌ تطير في السماء، تنقل الناس من مكانٍ إلى آخر أسرعَ من النسور، وعن أدواتٍ يتحدث فيها الناس فيرون ويسمعون بعضهم من أماكن بعيدة، وعن آلاتٍ تُسهِّل الزراعة وتُخفِّف المشقة، وكلها صُنعت لتجعل الحياة أيسرَ وأسرع. سألتني: وهل صار الناس أكثر سعادة؟ قلت: في الغالب، لا. ليسوا سعداء أغلب الوقت."
> (من رواية "غريب في المدينة الملعونة" – رفعت مايز)













0 تعليق