الإثنين 03 نوفمبر 2025
رئيس مجلسي الإدارة والتحرير
عبدالرحيم علي
رئيس التحرير
داليا عبدالرحيم
العالم
 ماكرون يزور ساركوزي سرًا ويؤكد العدالة فوق العاطفة.. والقضاء يُنفذ حكم السجن رغم الاستئناف 
زوجته كارلا برونى تبكيه أمام الكاميرات وتصف الحكم بـ«الانتقام السياسى»
سجينان يهددان ساركوزى داخل السجن: «سننتقم للقذافى»
 
شهدت فرنسا الثلاثاء ٢١ أكتوبر ٢٠٢٥ حدثًا غير مسبوق في تاريخ جمهوريتها الخامسة، تمثل في دخول رئيس سابق إلى سجن «لا سانتيه». فقد نُفّذ الحكم الصادر عن محكمة باريس الجنائية في ٢٥ سبتمبر بحق الرئيس الأسبق نيكولا ساركوزي (٧٠ عامًا)، والقاضي بسجنه خمس سنوات، منها ثلاث نافذة، وتغريمه ١٠٠ ألف يورو، مع منعه من تولي المناصب العامة لمدة خمس سنوات. 
جاء الحكم بعد إدانته في قضية التمويل الليبي لحملته الرئاسية عام ٢٠٠٧، حيث أثبتت التحقيقات تلقيه نحو ٥٠ مليون يورو من الزعيم الليبي الراحل معمر القذافي عبر الوسيط اللبناني الفرنسي زياد تقي الدين، الذي توفي لاحقًا في ظروف غامضة.
ساركوزي، الذي حكم فرنسا بين عامي ٢٠٠٧ و٢٠١٢، هو ابن مهاجرين أوروبيين، اشتهر بصرامته عندما كان وزيرًا للداخلية، وأصبح أحد أبرز وجوه اليمين الفرنسي بعد الرئيس جاك شيراك. واليوم، يواجه تهمًا جديدة بالتآمر مع دولة أجنبية، قد تصل عقوبتها إلى السجن عشر سنوات، بينما طالب الادعاء بعقوبة سبع سنوات. ورغم إعلان استئنافه للحكم، قررت المحكمة التنفيذ الفوري، ليبدأ الرئيس الأسبق تنفيذ عقوبته بانتظار جلسة الاستئناف الشهر المقبل.
أثار الحكم صدمة في الأوساط السياسية، لكنه اعتُبر في الوقت ذاته دليلًا على قوة القضاء الفرنسي واستقلاليته، إذ أظهر استطلاع رأي أن ٥٨٪ من الفرنسيين يعتبرون القرار عادلًا. وأعاد المشهد إلى الأذهان محطات تاريخية نادرة عندما طالت العدالة أعلى رموز الدولة، من الملك لويس السادس عشر خلال الثورة الفرنسية إلى الجنرال فيليب بيتان عام ١٩٤٥، في تذكير دائم بأن لا أحد فوق القانون في الجمهورية الفرنسية.
منذ قيام الجمهورية الخامسة، تراكمت ملفات القادة الفرنسيين أمام القضاء، في سلسلة من المحاكمات التي كشفت الوجه الصارم للمؤسسات الفرنسية في محاسبة كبار المسئولين. فقد أدين رؤساء سابقون بتهم الفساد والاختلاس واستغلال النفوذ، أبرزهم جاك شيراك الذي حُكم عليه عام ٢٠١١ في قضية "الوظائف الوهمية" حين كان عمدة باريس، فيما واجه فرانسوا ميتران اتهامات مشابهة خلال فترة حكمه (١٩٨١-١٩٩٥). 
كما طالت الأحكام رؤساء حكومات مثل إدوار بالادور، وفرانسوا فيون، وآلان جوبيه في ملفات تمويل غير قانوني، إضافة إلى وزراء بارزين كوزيري الداخلية شارل باسكوا وكلود جيان، ووزير الهجرة برايس هورتيفو، والوزير ورجل الأعمال برنار تابي بتهم فساد واستغلال نفوذ، إلى جانب جورج ترون المتهم بالاغتصاب، وباتريك بلكاني المدان بالتهرب الضريبي.
وفي السياق ذاته، تواجه مارين لوبين، زعيمة حزب التجمع الوطني، اتهامات باختلاس أموال عامة من خلال توظيف مساعدين وهميين في البرلمان الأوروبي. وقد استغلت لوبين الحكم على نيكولا ساركوزي لتجديد هجومها على القضاء، متهمة بعض القضاة بـ"تسييس العدالة".
أما سجن ساركوزي فشكّل زلزالًا سياسيًا وقانونيًا، إذ قررت المحكمة تنفيذ الحكم فورًا رغم الاستئناف، وهو إجراء نادر يُستخدم عادة في القضايا الخطيرة. وأكد نص الحكم أن أفعاله "تمس جوهر الثقة بين المواطنين وممثليهم". وهكذا، أُدرج اسم ساركوزي في سجل نادر يضم الملك لويس السادس عشر والمارشال فيليب بيتان، كقادة فرنسيين واجهوا أحكامًا بالسجن، لتغدو فرنسا اليوم الأشد صرامة أوروبيًا في محاسبة قادتها السابقين.
تعاطف ماكرون
أبدى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون تعاطفًا إنسانيًا مع سلفه نيكولا ساركوزي بعد صدور الحكم بحبسه، رغم تأكيده على احترام استقلال القضاء. فقد استقبل ماكرون ساركوزي سرًا في قصر الإليزيه قبل أيام من سجنه، في لقاء مغلق بعيدًا عن الإعلام والمستشارين، أراد من خلاله التعبير عن الاحترام المتبادل واستمرارية الرابط الجمهوري بين رئيسين سابق وحالي للجمهورية الخامسة.
جاء اللقاء محمّلًا بدلالات إنسانية وسياسية، إذ سعى ماكرون إلى مواساة ساركوزي في محنته، والتأكيد على أنه رغم الخلافات والظروف القانونية، يظل الأخير شخصية محورية في اليمين الفرنسي وفي التاريخ السياسي المعاصر. ويُذكر أن الرئيس الحالي لطالما طلب نصائح سلفه في القضايا الأوروبية والدبلوماسية، مما يعكس استمرار قناة تواصل غير معلنة بين الرجلين.
في خضم التوترات داخل المعسكر اليميني عقب إدانة ساركوزي، دعا ماكرون إلى الهدوء المؤسسي وإلى التوازن بين العدالة والسياسة، معتبرًا أن فرنسا تظل دولة قانون تتيح لكل مواطن حق الاستئناف والطعن في الأحكام. وأوضح أن من الطبيعي أن يلتقي أحد أسلافه في مثل هذه الظروف الصعبة، مؤكدًا أن النقاش حول كيفية تنفيذ عقوبة رئيس سابق مشروع ومشروعته لا تعني التشكيك في القضاء، بل تعزيز الثقة به في زمن تتقاطع فيه المشاعر والسياسة.
أثار إعلان وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانان، أحد المقربين من نيكولا ساركوزي، عزمه زيارة الرئيس الأسبق في سجنه، موجة انتقادات حادة من نقابات القضاة والمعارضة اليسارية، التي رأت في المبادرة خلطًا خطيرًا بين الصداقة الشخصية والمسئولية الوزارية. وفي الوقت نفسه، قدّم محامو ساركوزي طلبًا رسميًا للإفراج المؤقت بانتظار قرار القضاء خلال الأسابيع المقبلة، إذ لا يسمح القانون بالاحتجاز إلا في حالات محددة كخطر الهروب أو التأثير على الشهود أو التواطؤ. وإن لم تتوافر هذه الشروط، فقد يُفرج عنه مع إقامة جبرية أو مراقبة إلكترونية.
وفي خضم الجدل، نشر ساركوزي بيانًا مؤثرًا على منصة "إكس" قبل دخوله السجن، أكد فيه براءته وندد بما وصفه بـ«الفضيحة القضائية» التي تطارده منذ أكثر من عقد، قائلًا: «تحولت حياتي إلى درب من المعاناة منذ أكثر من عشر سنوات، وسأواصل النضال ضد هذا الظلم.» كما صرّح لصحيفة لا تريبيون ديمانش: «لست خائفًا من السجن، سأرفع رأسي عاليًا حتى خلف القضبان.»
حزن في فرنسا
في ختام بيانه، وجّه نيكولا ساركوزي رسالة مؤثرة إلى الشعب الفرنسي، حملت نبرة وطنية أكثر منها شخصية. عبّر عن حزنه العميق على فرنسا، معتبرًا أن بلاده «تجد نفسها مُهانة بسبب انتقام بلغ حدًّا غير مسبوق من الكراهية»، مؤكدًا ثقته بأن «الحقيقة ستنتصر، مهما كان الثمن باهظًا». كلماتٌ عكست مزيجًا من الألم والعزيمة، ليظل في نظر أنصاره رجل دولة يواجه محنته بشرف وإصرار.
في سجن لا سانتيه، وُضع الرئيس الأسبق في حبس انفرادي داخل زنزانة لا تتجاوز مساحتها ١١ مترًا مربعًا، مجهزة بسرير فردي ودش ومكتب صغير وثلاجة وشاشة تليفزيون. حُددت مقتنياته الشخصية بثلاثة كتب وعشر صور، واختار من بينها «كونت مونت كريستو» لألكسندر دوما و«سيرة يسوع» لبيتيتفيلس، في إشارة رمزية تجمع بين الصبر والخلاص. يُسمح له بساعة رياضة يومية في فناء صغير، وباستخدام هاتف أرضي مراقَب للتواصل مع عائلته ومحاميه، إضافة إلى ثلاث زيارات أسبوعية.
ورغم نفيه لأي معاملة تفضيلية، يعيش ساركوزي تحت حماية استثنائية غير مسبوقة، إذ يتولى حراسته ضابطان مسلحان من جهاز حماية الشخصيات، في وقت يعاني فيه السجن من اكتظاظ بنسبة ١٩٠٪. المفارقة أن الرجل الذي شدّد السياسات العقابية حين كان وزيرًا للداخلية ورئيسًا للجمهورية، وجد نفسه اليوم أول رئيس للجمهورية الخامسة خلف القضبان، محاطًا بحراسة فائقة داخل مؤسسة تعاني من قسوة الظروف.
من جانب آخر، أضافت زيارات زوجته كارلا بروني، ووزير العدل جيرالد دارمانان، إضافة إلى اللقاء السري السابق مع الرئيس إيمانويل ماكرون، بعدًا سياسيًا واضحًا لقضية نيكولا ساركوزي، وأثارت جدلًا واسعًا حول استقلال القضاء الفرنسي. ورأت المعارضة اليسارية أن المعاملة التي يحظى بها الرئيس السابق تُشبه معاملة «ملك جمهوري»، وهو ما يعكس مفارقة السلطة حتى خلف القضبان. وقال صديقه المقرب، جان-كلود دارمون، إن هذا الوضع صادم ويُلخّص عقلية فئة معينة: «هذه صدمة لأناس مثلنا، فنحن لم نخلق للسجن، ولسنا حيوانات!»، في إشارة إلى شعور النخبة بعدم تقبل السجن.
جدل قضائي
في سياق متصل، أثير جدل قضائي بعد أن نشرت القاضية ماجالي لافوركاد تعليقًا على موقع لينكدإن، معبرة عن غضبها من لقاء ماكرون لساركوزي وإعلان زيارة دارمانان له. ورأت أن ذلك يُفاقم اللبس بين «المتهم المعتقل» و«رئيس الجمهورية السابق»، ويضع ضغوطًا على القضاة المكلفين بالنظر في طلب الإفراج المؤقت، كما يخالف مبدأ المساواة ويضر بمصداقية القضاء. وأكدت القاضية أن التركيز الإعلامي على ساركوزي يعكس استثناءً غير مقبول في ظل ظروف السجن الصعبة التي تواجه باقي النزلاء، مشيرة إلى أن فرنسا سبق وأن أُدينت من المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بسبب ظروف احتجاز قاسية.
ردّ المتحدث باسم وزارة العدل، ساشا ستروب-كان، على القاضية بالتوبيخ، مؤكدًا أن تصريحاتها «مضللة وكاذبة»، وأن احتجاز ساركوزي لم يكن معاملة تفضيلية، بل احتجاز مُكيّف لضمان سلامته، مثل حالات أخرى من الحبس الانفرادي. وأوضح أن زيارة وزير العدل للمراكز السجنية أمر طبيعي لمتابعة الإدارة، مؤكّدًا أن فرنسا لم تُدان قط بسبب التعذيب، ودعا القضاة إلى ضبط النفس والحياد في ممارسة مهامهم.
هذا الجدل يعكس توازنًا حساسًا بين السلطة السياسية والقضاء، ويُبرز كيف يمكن لقضية رئيس سابق أن تتحول إلى اختبار لمصداقية المؤسسات في الجمهورية الفرنسية.
إهانات ضد ساركوزي
شهد سجن لا سانتيه الفرنسي حادثة مثيرة تمثلت في إهانة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي فور وصوله إلى السجن، ما أدى إلى مثول سجينين أمام القضاء في جلسة محاكمة فورية يوم الجمعة الماضي.
وبحسب مصادر قضائية، يُتهم السجين إلياس ب. بتوجيه عبارات مسيئة وتهديدات بالقتل إلى ساركوزي من نافذة زنزانته، إذ كرر القول: «ستقضي وقتًا عصيبًا في السجن» و*«سننتقم للقذافي، نحن نعرف كل شيء عنك يا ساركوزي»*. وقد تم تصوير هذه التهديدات ونشرها على منصة تيك توك، ما أثار ضجة واسعة داخل المؤسسة العقابية وخارجها.
ويواجه إلياس ب. عقوبة قد تصل إلى ثلاث سنوات سجنًا وغرامة مالية قدرها ٤٥ ألف يورو بسبب التهديدات والإهانات، بالإضافة إلى إمكانية الحكم عليه بخمس سنوات أخرى بتهمة حيازة هاتف محمول داخل السجن. أما السجين الثاني أنج أ.، فيُحاكم بتهمة التواطؤ والمساعدة على نشر التهديدات، إذ سمح باستخدام هاتفه لتصوير المقطع وتوزيعه. وقد أُلقي القبض عليه في زنزانته، ويواجه بدوره عقوبة قد تصل إلى ثلاث سنوات سجنًا.
وفي خضم هذه الأحداث، تلقى ساركوزي خبرًا سارًا من عائلته، إذ أعلن على حسابه الرسمي في إنستغرام – الذي يديره موظفوه – أنه أصبح جدًا لأول مرة. فقد نشر صورة لزوجته المغنية الإيطالية كارلا بروني وطفلهما، مرفقة بأغنية لها، معلنًا ولادة حفيده سيلا نيكولا ساركوزي، ابن لويس ساركوزي وزوجته ناتالي هوسيك. وكتب لويس معبرًا عن سعادته: «اقتربنا من الحياة الأبدية، لقد أصبحنا أبوين».
يُذكر أن ساركوزي لا يمتلك هاتفًا ذكيًا أو اتصالًا بالإنترنت في زنزانته، ويُسمح له فقط باستخدام هاتف ثابت وتلفاز باشتراك شهري، مع مراقبة اتصالاته كافة.
لعنة القذافي تطارد ساركوزي
في تطور قضائي غير مسبوق في التاريخ السياسي الفرنسي، أصدرت محكمة النقض في باريس حكمًا نهائيًا يقضي بتأييد إدانة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي في قضية الفساد واستغلال النفوذ، المعروفة إعلاميًا بـ«قضية التنصت». القرار الذي صدر في ١٨ ديسمبر ٢٠٢٤ وضع حدًا لمحاولات الطعن التي قدّمها فريق الدفاع، مؤكّدًا الحكم الصادر سابقًا من محكمتي الدرجة الأولى والاستئناف.
وبذلك أصبحت إدانة ساركوزي نهائية وقابلة للتنفيذ، وتشمل عقوبة السجن ثلاث سنوات، منها عام واحد تحت المراقبة عبر سوار إلكتروني، فيما يُمنع من ممارسة أي نشاط سياسي لمدة ثلاث سنوات إضافية بسبب «عدم الأهلية السياسية». وتُعدّ هذه العقوبة الأولى من نوعها التي تطال رئيسًا فرنسيًا سابقًا بهذه الصرامة، إذ لم يسبق أن خضع أي رئيس سابق لمراقبة إلكترونية داخل منزله.
ووفقًا لمصادر قضائية، استُدعي ساركوزي للمثول أمام قاضي تنفيذ العقوبات من أجل تحديد الشروط الدقيقة للمراقبة الإلكترونية، التي ستقيد حركته وتخضع تحركاته لتتبّع دائم عبر سوار إلكتروني ذهبي اللون.
من محاكمة إلى أخرى
بدأت فصول هذه القضية في ١ مارس ٢٠٢١، عندما أدان القضاء الفرنسي ساركوزي لأول مرة بتهمة محاولة رشوة قاضٍ رفيع المستوى مقابل الحصول على معلومات سرية تتعلق بتحقيق حول تمويل حملته الانتخابية لعام ٢٠٠٧. وفي ١٧ مايو ٢٠٢٣، أكدت محكمة الاستئناف الحكم، لتأتي محكمة النقض بعد عام وتجعله نهائيًا.
ويعتبر القضاة أن الرئيس الأسبق حاول استغلال نفوذه السياسي للحصول على معلومات تخص قضية أكبر، وهي التمويل غير المشروع لحملته الرئاسية من أموال ليبية قدمها نظام العقيد معمر القذافي، الذي أطيح به لاحقًا في عام ٢٠١١ إثر التدخل العسكري الفرنسي.
جذور القضية
تعود بداية الشبهات إلى عام ٢٠١٢، حين نشر موقع «ميديابارت» الاستقصائي وثائق تشير إلى أن نظام القذافي وافق على تقديم ما يصل إلى ٥٠ مليون يورو لدعم حملة ساركوزي الانتخابية عام ٢٠٠٧. وبحسب الوثائق، كانت الصفقة السياسية تقضي بمساعدة ليبيا على العودة إلى الساحة الدولية ورفع المذكرات القضائية الصادرة بحق عدد من المسئولين الليبيين، من بينهم عبد الله السنوسي، صهر القذافي ورئيس جهاز استخباراته.
كما تضمنت التحقيقات اتهامات متبادلة وضغوطات سياسية، إذ تراجع بعض الشهود عن أقوالهم لاحقًا بعد تعرضهم لضغوط مباشرة من ساركوزي نفسه، ما أضفى مزيدًا من التعقيد على القضية التي ظلت مفتوحة لسنوات طويلة.
القنبلة الإعلامية
في ١٦ مارس ٢٠١١، فجر سيف الإسلام القذافي، نجل الزعيم الليبي الراحل، مفاجأة مدوية حين اتهم علنًا ساركوزي في مقابلة مع قناة «يورونيوز» بتلقي أموال ليبية لتمويل حملته الانتخابية. وقال في تلك المقابلة:على ساركوزي أن يعيد الأموال التي حصل عليها من ليبيا، لدينا كل الأدلة على ذلك. نحن الذين موّلنا حملته الانتخابية، وسنكشف عن كل التفاصيل قريبًا».
لكن الأحداث تسارعت بعد أيام فقط، إذ أطلقت فرنسا بالتعاون مع حلف الناتو التدخل العسكري في ليبيا في ١٩ مارس ٢٠١١، قبل أن يتمكن سيف الإسلام من تقديم أدلته. وفي نوفمبر من العام نفسه، تم القبض عليه في جنوب ليبيا في ظروف غامضة، وقيل إنّ اعتقاله تم بتحريض مباشر من باريس، ليُزج به في سجن بمدينة زنتان حتى عام ٢٠١٧.
في ١٢ مارس ٢٠١٢، كشفت «ميديابارت» عن مذكرة صادرة بتاريخ ٢٠ ديسمبر ٢٠٠٦ كتبها المحقق الفرنسي جان شارلز بريسارد، تفيد بأن ترتيبات التمويل تمت خلال زيارة رسمية أجراها ساركوزي إلى ليبيا في ٦ أكتوبر ٢٠٠٥، وأن المبلغ الإجمالي المتفق عليه بلغ ٥٠ مليون يورو.
وتشير الوثيقة إلى تورط شركات خارجية مثل شركة «BH» في بنما وبنك سويسري يُعرف باسم «ND» في عمليات تحويل الأموال. كما أظهرت المذكرات المرفقة أن وزير الداخلية الفرنسي آنذاك كلود غوانت، والمقرب من ساركوزي بريس أورتوفو، كانوا على تواصل مباشر مع مسئولين ليبيين بشأن «صفقات أمنية وتجارية» مريبة.
وفي ٢٨ أبريل ٢٠١٢، نشرت «ميديابارت» وثيقة جديدة مكتوبة بالعربية وموقعة من موسى كوسا، رئيس الاستخبارات الليبية الخارجية، بتاريخ ١٠ ديسمبر ٢٠٠٦، تشير بوضوح إلى قرار رسمي من القذافي بالموافقة على تمويل حملة ساركوزي بمبلغ ٥٠ مليون يورو. وجاء فيها أن التنفيذ أوكل إلى بشير صلاح، مدير مكتب القذافي، بالتنسيق مع عبد الله السنوسي وزياد تقي الدين، رجل الأعمال الفرنسي اللبناني الذي لعب دور الوسيط في عمليات التحويل.
نهاية مشوار سياسي
بهذا الحكم، تكون «لعنة القذافي» قد لحقت بساركوزي بعد أكثر من عقد على سقوط النظام الليبي. فالرئيس الذي قاد حملة عسكرية أطاحت بالقذافي عام ٢٠١١ يجد نفسه اليوم أسيرًا لتداعيات تلك المرحلة. وبينما يقضي عقوبته تحت المراقبة الإلكترونية في منزله، لا يزال القضاء الفرنسي يحقق في ملف تمويل الحملة الانتخابية الليبية، الذي قد يفتح فصلًا جديدًا في مسيرة ساركوزي السياسية والقضائية الطويلة.
كشف المستور
في خضم الجدل الدائر حول تمويل حملة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، ظهرت تصريحات جديدة تعيد تسليط الضوء على الدور الليبي في تلك القضية التي باتت تعرف بـ«فضيحة أموال القذافي». ففي ٢٥ أكتوبر ٢٠١١، وخلال جلسة استماع أمام محكمة الاستئناف في تونس، فجر رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي مفاجأة مدوية حين قال إنه أشرف شخصيًا من طرابلس على ملف تمويل حملة ساركوزي الرئاسية عام ٢٠٠٧.
وأكد المحمودي خلال إفادته أنه، بصفته رئيسًا للوزراء، تابع شخصيًا عملية تحويل الأموال الليبية إلى سويسرا، مشيرًا إلى أن ساركوزي كان «ممتنًا جدًا لهذه المساعدة» ولم يتردد في التعبير عن شكره عبر وسطاء مقربين. وقد كانت هذه الإفادة بداية تحقيق أولي في باريس أشرف عليه مكتب المدعي العام الفرنسي، ضمن سلسلة من القضايا التي لاحقت الرئيس الأسبق منذ خروجه من الإليزيه.
شهادات جديدة تؤكد التحويلات
لم تكن تصريحات المحمودي الوحيدة التي دعمت هذه الاتهامات، إذ أظهر تحليل المحققين لمذكرات وزير النفط الليبي السابق شكري غانم – الذي توفي في ظروف غامضة في فيينا عام ٢٠١٢ – ملاحظات كتبها في ٢٩ أبريل ٢٠٠٧، أشار فيها بوضوح إلى «تحويل أموال من طرابلس إلى باريس عبر وسيط فرنسي لصالح حملة نيكولا ساركوزي».
وفي نوفمبر ٢٠١٦، أدلى رجل الأعمال الفرنسي اللبناني زياد تقي الدين بشهادة أمام القضاء الفرنسي قال فيها إنه نقل بنفسه خمسة ملايين يورو نقدًا من طرابلس إلى باريس، بتكليف من عبد الله السنوسي، رئيس الاستخبارات الليبية، وسلمها يدويًا إلى كلود غوانت – مدير مكتب ساركوزي آنذاك – وإلى الرئيس نفسه، خلال الفترة ما بين نوفمبر ٢٠٠٦ ويناير ٢٠٠٧.
أما في يونيو ٢٠١٣، فقد أكد مفتاح ميسوري، المترجم الشخصي والدبلوماسي المقرب من القذافي، صحة الوثيقة الموقعة باسم موسى كوسا، رئيس الاستخبارات الليبية الخارجية، والتي تنص على دفع ما لا يقل عن عشرين مليون دولار نقدًا لدعم حملة ساركوزي. ورغم أن موسى كوسا أنكر لاحقًا توقيعه عليها، فإن تحليل الخبراء في ٦ نوفمبر ٢٠١٤ أثبت أن التوقيع يعود إليه فعلًا، ما عزز مصداقية الوثائق المنشورة عبر موقع «ميديا بارت» الفرنسي.
تداعيات سياسية واقتصادية واسعة
أدت إدانة نيكولا ساركوزي وسجنه إلى زلزال سياسي في فرنسا، إذ فقد أحد أبرز رموز اليمين الفرنسي تأثيره داخل الحزب الجمهوري. ويرى مراقبون أن الحكم أدى إلى تعميق الانقسام داخل المعسكر المحافظ، وفتح الطريق أمام اليسار والوسط لتعزيز نفوذهما السياسي قبل الاستحقاقات التشريعية والرئاسية المقبلة.
على الصعيد الاجتماعي، انقسم الرأي العام الفرنسي بين من يعتبرون ساركوزي رمزًا للفساد السياسي ومن يرونه ضحية تصفية حسابات، فيما تعكس استطلاعات الرأي هذا الانقسام الحاد حول مصداقية القضاء الفرنسي واستقلاله.
أما اقتصاديًا، فقد أثارت القضية مخاوف المستثمرين من اضطرابات سياسية محتملة، إذ ربط بعض المراقبين بين تراجع الثقة في الطبقة الحاكمة وتقلبات محدودة في بورصة باريس.
في المقابل، يرى آخرون أن سجن رئيس سابق هو دليل على قوة النظام القضائي الفرنسي وقدرته على تطبيق العدالة دون تمييز، حتى في قضايا تمس رؤساء الجمهورية. ومع ذلك، تبقى القضية مفتوحة على احتمالات كثيرة، خصوصًا بعد الاتهامات التي تطال أطرافًا ليبية وفرنسية في اغتيال القذافي نفسه، في محاولة – بحسب بعض الروايات – لإخفاء أسرار التمويل.











            


0 تعليق